...
Show More
ماهو الفن؟
مخاطرة كبيرة أن يسأل المرء هذا السؤال، ناهيك عن مناقشته وتحليله في إطار تاريخي تطوري وكذلك من خلال جوهره كمادة دسمة يقبع تحت عباءتها كمٌ هائل من التعريفات والفروع والخلافات والأهداف والأساليب المتبعة في تشكل المعنى الواضح للفن..
الفن ،الجمال، الأخلاق.. هذه المفاهيم الثلاثة لا يمكن لها أن تنفصل عن بعضها البعض تقترب من أن تكون متلازمة وتطرح من خلالها أسئلة بإستمرار حول مدى علاقة الفن بالإخلاق، وطبيعة الجمال في الفن، ودور الجمال في تكوين الفنون ونسبة إستحواذها على معنى الفن وإدراك المغزى من وراء علاقة الجمال بالفن كمفصل يتصور البعض أنه لا يمكن لها أن ينفصلا بأي حال من الأحوال، أو أصبح الجمال متماهياً في الفن لدرجة أنه أحياناً يصعب تكوين مفهوم واضح حول تداخل الجمال في دائرة الفن والعجز عن تصور ماهو الفرق بينهما، حتى الجمال نفسه له تعريفات لا حصر لها ومذاهب متعددة تفسر مفهموم الجمال وتقيمه على حسب نظرتها للمفهوم وعلى طبيعته وماهيته، خصص تولستوي الأجزاء الأولى من الكتاب بتعريف القارئ بتلك المذاهب والفلسفات التي أصلت وأتبعت مناهج عدة للوصول إلى الأصول الواضحة في الجمال ومادته وكيف يجب أن يكون وماذا يخدم، بين من يرى الجمال عبارة عن الصورة الحسية للأشياء ولا يرى فيه سوى الصور المتحركة التي تولد الجمال في الحواس، وبين الرأي القائل بجمال الأشياء في جوهرها وذاتها ويرى أن الجمال لا يمكن أن يدرك من الحس إذا لم يكن الجمال قابعاً متماهياً مع ذلك الشئ الذي نظن فيه الجمال، والذي يرى الجمال كأمر نسبي لا يمكن تحديده كحالة ثابته في الحواس والجواهر، وأخيراً اتباع النظرية التي تقول بنسبة الجمال إلى اللذة الحاصلة منه، فما كان شئ من لذة سوى كان البصر أو الشم او اللمس كان جميلاً ويستحق تلك الصفة وأما دون ذلك فلا وجود للجمال فيه مادمت اللذة فيه غائبة وقاصرة في توصيلها الى الحواس، هنا كان من الضروري أن يتداخل الجمال مع الفن في نقاط مفصلية عديدة أدت إلى تحويل الجمال الى المقياس الرئيسي بل احيانا الوحيد للفن وطغى هذا التحول في الفن وصار من المستحيل نزع أحدهما عن الآخر، إما فن معه جمال أو لا شئ .. يقول تولستوي عندما ظهر هذا المفهوم في أوروبا تحول الفن إلى آلة منتجة للجمال لا للفن، فما كان فناً في السابق يوصل الأحاسيس الى الناس العاديين بعفوية وهدوء وإتزان تحول إلى سباق يهرول فيه الجميع الى التعمق في إستدراج كل ما أتيح من جمال سواء كان أخلاقياً ام لا، الى الفن بإسم الفن نفسه، أصبح الفن وقتها لا يمثل إلا الطبقة الغنية الارستقراطية التي بلغت من الملل والتشبع إلى طلب فنٍ لا يحوى سوى المتعة والمشاهدة اللذيذة التي تكرس نفسها لإضفاء من التغيير الروتيني وجلب بعض الإثارة والدهشة لـ أولئك الأرستقراطين الخاملين.. وهنا ليس مقصد الجمال هو ذاك الذي يبعث على الاعجاب والسكينة، بل المقصود منه الجمال عن الطبقة المثقفة التي أحالت نفسها حكماً على الجمال نفسه..
هنا كما يقول تولستوي، إنقلب الفن رأساً على عقب، فبعدما كانت هي الوسيلة الأكثر نجاعة في غرز قيم الخير والمحبة والتسامح في قلوب البشر، أصبح لا يبحث سوى إثارة متلقيه سواء كان أدباً او رسماً أو موسيقى.. تحول الفن في رأي تولستوي إلى مطرقة ناعمة تدق في الأساسات الأخلاقية مفاهيم وحكم معلمو البشرية الأوائل ، الذين طالما حذروا من الفن كما يقول تولستوي ليس لأنه محرم في ذاته بل لأنهم كانوا على علم مسبق لأي مسار ستؤدي طرق الفن ومذاهبها ، المسيحيون الأوائل حرموا الفنون كالنحت والموسيقى وكذلك فعل المسلمون الأوائل والأنبياء من قبلعم، لأنهم أدركوا خطورة ماقد يؤدي به الفن من طرق الإفساد وتلويث الاذواق وتهديم الاسس الاخلاقية للإنسان..
لم يكن الفن الأول في نظر تولستوي سوى الفطرة الإنسانية السليمة المنقادة تحت لواء التجربة الدينية العميقة ممثلة في الأنبياء القدامى والحكماء والفلاسفة، ذلك الفن الذي كان يتحرك في داخل كل إنسان سواء كان مثقفاً أو غير ذلك، الفن الذي لم يكن بحاجة الى تلك الزخارف والتلميعات كي يرغم الناس على الإعجاب والتأثر به، ذلك الفن لم يكن بحاجة الى اضفاء الرغبات الشهوانية الخاملة في داخله، أو صورة إمرأة نصف متعرية على خشبة مسرح او لوحة فاضحة، أو مشهد دموي او حروب طاحنة لا هدف لها سوى إظهار النزعة السادية في الفنان والمتلقي على حد سواء.. كان الفن بسيطاً ساحراً يؤخذ من حياة الناس بساطتها ومن تفكيرهم قصتها ومن قضاياهم سردها وحبكتها، ومن بيئتهم وصفها وتفصيلاتها، كانت تنتمي الى الانسان بوصفه الانسان لا أكثر، لا تتطلب منه أن يكون مثقفاً وفيلسوفاً كيف يفهم رواية او قصيدة او لوحة رمزية..
ذهب تولستوي أخيراً إلى أن الفن إذا إنحدر الى ذاك المستوى السحيق المتدني لم تعد الحاجة إليه ضرورية، ويفضل ان تكون الحياة خالية من الفن على يكون الفن بذلك المستوى المتدني..
ذكر أيضاً أمثلة كثيرة على رقي جوانب كثيرة من الفن، كأدب هوجو و دوستويفسكي وبعض اللوحات التي تعني حياة الانسان في صميمها وتهدف الى رفع المعاناة عنه بدلاً من تحميله أعباء جديدة تحت مسمى الفن..
كتاب رائع، لذيذ، شيق، وصريح.. يعطيك نظرة شاملة عن الفن من منبعه وحتى عهده القريب، وأظن أن الفن الحديث هو نسخة مطابقة لما ذكره تولستوي في عصره مع مزيد من التطرف والمغالاة عن عصر تولستوي.. الكتاب ليس حرباً على الفن بقدر ما هو كشف لأقنعة الحقيقة ورؤية مستقبلية للإنسان لتجنب الوقوع في فخ الفن..