...
Show More
قالوا لها أنهم وجدوها صبيحة أحد الأيام بداخل صندوق للصابون، فيما تؤكد مربيتها الهندية أن هذه المعلومة غير دقيقة بالمرة، أما هي فلم تكن تهتم ببداية قصتها في الماضي بقدر اهتمامها بما هي عليه في الحاضر وما ينتظرها في المستقبل. كانت تشعر بالامتنان والسعادة بفضل حنان ورعاية كلا من مربيتها الهندية (فسيليسيا) وأمها بالتبني( روز). كبرت الصغيرة (إلزا) بطلة حكايتنا في كنف عائلة (سوميرز) بداخل إحدى حارات مدينة (بالباراسيو) القابعة في (تشيلي) في بداية القرن التاسع عشر، تعلمتْ أصول الأدب واللياقة كما تقتضيها عادات وتقاليد هذا العصر وبأفضل ما يكون، فكانت أمها ( روز) تشعر بالامتنان لربها الذي عوضها عن حرمانها من الزواج كباقي النساء بهذه الابنة الطيبة. عندما تخطت (إلزا) حاجز الطفولة البريئة ودخلت عالم المراهقة المتأجج بنيران المغامرات والرغبة، ما كان لها إلا أن تنال نصيبها: نصيبها من الأنوثة، نصيبها من الحرية، ونصيبها من الحب. فور أن حلّ الحب، حلت معه نقطة التحول المعتادة، التي تفصل حياة كل من يجرع كأسه إلى نصفين: نصف ما قبل الحب ونصف ما بعده، وكلا النصفين لا يربط بينهما سوى قلبِ صغير عاشق للحياة كقلب جميلتنا.. إلزا.
قصة الحب لم تستمر كما نتمنى، لأن القاعدة تقول أنه لكي تكون قصة الحب ناجحة، يجب أن تمر بالعديد من الصعاب أولًا. الصعاب هنا كانت تتمحور حول الفراق، فإذا بـ(إلزا) التي ذاق قلبها حلاوة الحب ونيران الفراق تتحول إلى أنثى جامحة، لا يقف أمامها أي شيء في سبيل الوصول إلى نصفها الآخر أينما يكون. غادرت (إلزا) عشّها الصغير الذي لم تتوقع يومًا أن تبتعد عنه لمسافة خطوات، فإذا بها تعبر بحارًا ومحيطات سعيًا وراء حبيبها.
في هذا الوقت كانت حُمّى التنقيب عن الذهب المكتشف حديثًا في (سان فرانسيسكو) قد بلغت أقصى مراحل تأججها، حيث انتشرت الأخبار عن الذهب المُلقى على الأرض هناك ولا يجد من يحمله، وعن قطع الذهب التي يصل حجمها أحيانًا إلى حجم صخرة كبيرة!، وبعيدًا عن هذه المبالغات التي تهدف إلى مزيد من الإغراء، كان الأمر صحيحًا إلى حدٍ كبير، فكانت الهجرة إلى أرض الأحلام هذه بمثابة الحلم الأكبر للجميع، وما كان على الحبيب إلا أن يلحق بالجموع الغفيرة المهاجرة كي ينال نصيبه من الكنز الثمين. السؤال الذي لم يُطرح في الرواية ولكن القارئ سيطرحه بنفسه هو: هل هاجَر ليبحث عن الذهب كي يكسب مالًا يؤهله للفوز بحبيبته، أم يكسب مالًا لنفسه؟.
هذا هو السؤال الذي يسيطر عليك وأنت تقرأ هذه الرحلة الضخمة، فتجد نفسك في بداية رحلة (إلزا) تتسائل عن مدى أحقية هذا الحبيب بكل هذا العناء الذي تبذله لأجله، ولا يُستبعد أن تشعر بالشفقة على هذه الأنثى المخدوعة في حبيبها نظرًا لقلة تجاربها وخبرتها ولرقة وطيبة قلبها الشاب، ومع توالي الأحداث واندماجك في الرحلة ستكتشف أن الأمر لا يقتصر على قصة حب ورحلة بحث عن حبيب فقط، الأمر أكبر وأكثر عمقًا من ذلك.
إيزابيل الليندي، بأسلوب من أعذب ما قرأت، تفرض عليك أن تُسلم زمام عقلك ووعيك لها، فتأخذك معها في رحلة مع بطلتها لتنقلك من مكان لآخر، من بلد لبلد ومن قارة لقارة، وتفصلك عن واقعك بمنتهى المهارة، فتمرّ الصفحات تباعًا وأنت في غاية الاستمتاع بالرحلة، وكلما تعمقت أكثر كلما اكتشفت عبثية سؤالك في البداية عن مدى أهمية هذه الرحلة من الأساس، وسيزداد اليقين لديك بأن رحلة البحث عن الحبيب لم تكون سوى طعم صغير ألهتك به إيزابيل الليندي في سبيل الوصول لهدفها الأسمى من الحكاية، ورغم أن الإجابة التي ��للتَ تبحث عنها وتنتظرها طول الرواية ستأتي مع آخر سطر في آخر صفحة بالضبط، في سيطرة مبهرة من الكاتبة على خطوط الحبكة، إلا أنك حين تصل إليها ستكتشف أنها لم تكن سوى تحصيل حاصل في مقابل ما حصلت عليه من أسئلة وأجوبة أخرى أكثر عمقًا وأكثر جمالًا.
محاولة الحديث عن تفاصيل الرحلة وباقي شخصيات هذه الرواية الملحمية الضخمة أمر صعب للغاية، فمن جهة، يصعب الحديث عنها بدون حرق ما لا يجب حرقه، ومن جهة أخرى لا أرغب في الكشف عن أي أبعاد أخرى لباقي شخصيات الرواية، بمن فيهم رفيق بطلتنا الطبيب الصيني الشاب الذي أعتبره من أجمل الشخصيات الروائية التي رأيتها. يا سادة، هناك سحرٌ خفيّ يكمن في استكشاف هذه التفاصيل بأنفسكم، ومتعة الرحلة تكمن في خوضكم لها لا في أن أحكي لكم عنها.
عبقرية الفكرة البسيطة التي تهدف إليها إيزابيل الليندي من هذه الرواية تتشكل رويدًا رويدًا وتصل إلى مرحلة النضج قبل النهاية بصفحات قليلة، فكانت آخر صفحات الرواية من أعذب وأجمل ما يكون، وأما عن النهاية التي وضعت الإجابة التي طال انتظارها متبوعة بنقطة التمام، فصدقًا كانت جميلة لدرجة أني ظللت أبتسم لدقائق معدودة من أثر النشوة التي حصلت عليها فيما أمارس عادة السرحان مع سقف غرفتي الأثيرة، وهي الحالة التي أمرّ بها بعد كل رحلة تمتعني إلى درجة يصعب وصفها بالكلمات.
ستخوض الرحلة، ستحب ( إلزا)، وستحب كل ما يدور حول (إلزا) من تفاصيل وشخصيات. ستبحث عن إجابات، وأثناء بحثك عنها ستنسى تساؤلاتك مرارًا من فرط اندماجك، وستكتشف أنه أحيانًا نذهب للبحث عن شيء ما، فإذا بنا نصل لشيء آخر، شيء يجعلنا نتأمل رحلتنا التي خضناها في هذه الحياة من البداية للنهاية، متسائلين عن جدوى ما بذلناه سعيًا وراء سراب أهدافنا، وعن جدوى هذه الأهداف من الأساس، ومقتنعين بأن هذه الحياة في بعض الأحيان لا تعطي المرء ما يريد، بل ما تريده
وما تريده الحياة لنا قد يكون أجمل بكثير من كل ما تمنيناه.
تمت.