من أجمل ما قرأت في حياتي! صوت نجيب محفوظ كان بيتردد في راسي وهو بيقول "إني أقمت حياتي في الدنيا على أساس الحب، حب العمل، وحب الناس، وحب الحياة، وأخيرا، حب الموت". كنت قادرة أشوف ده بوضوح شديد وأنا بقرأ، ثملةً بالإلهام، مشبعةً بالضياء. سعيدة إني قابلت الشيخ عبد ربه التائه أخيرا، درويش الدراويش، كان يستاهل كل دقيقة انتظار.
"سئل الشيخ عبد ربه التائه: هل تحزن الحياة على أحد؟ فأجاب: نعم.. إذا كان من عشاقها المخلصين.." :)
ولم يبقَ من دليل يا قلبي على حقيقة ما كان، إلا دموع تفجَّرت في الهواء، وتلاشت في الفضاء. . قال الشيخ عبد ربه التائه: يا من أيقظتنّ الفؤادَ في دار الفناء، أشهد بأنكنّ خلقتنّ الخصمَ القوي الذي يتحدَّى الموت. . قال الشيخ عبد ربه التائه: أشمل صراع في الوجود هو الصراع بين الحب والموت. . قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني رجل شاكيًا، فسألته عمَّا به فقال: إني غريق في بحر المتع ولا أشبع!
فقلتُ له: سأزورك يوم تشبع؛ لأُقدِّم لك واجب العزاء. . قلتُ للحياة: حقًّا إنك سر من أسرار الوهاب.
فقالت بحياء: إن أبنائي يسألونني، فلا يجدون عندي إلا السؤال. . قال الشيخ عبد ربه التائه: أطبق الشر على ا��إنسان من جميع النواحي؛ فأبدع الإنسان الخير في جميع المسالك. . وعند المغيب هبط الطائر الأخضر، فغرَّد وأشجاني دون أن أفقه له معنًی.
الشعور الذي لازمني هُنا كان أنني في حضرة صوفية وكأّن حروف نجيب الأريب تحوّلت لإيقاعٍ على الدفّ أصاحبه أنا في رقصة بعمر الأرض الله،،،حي
:::::::::::: لقراءة هذا الكتاب لابد وأن تكون قرأت لنجيب محفوظ-1 وقعت في غرام نجيب محفوظ-2 تريد التعمّق في روح نجيب محفوظ-3
فهو ليس بأعظم ما كتب ولكنّه من ألذ ما خطّ تشعر مع كل أقصوصة أو حكمة بأنك تتذوق فاكهة من الجنّة
كنت أعجب بالجملة تلو الجملة بالبداية والنهاية بالعبارات المكثّفة التي تشعّ بروحه المتأملة لذّة ليست من الأرض
النصوص في جملتها رمزية مخادعة وماكرة وأحياناً عبثية مجنونة
فقد يكتب النص الرمزي فيجد كل قاريء في نفسه ما يفسرها بمكنونات روحه وتجاربه الشخصية في أزمنة وأمكنة مختلفة من العالم وهذه مزيته الأدبية والرمزية لا تعني بأن الكاتب دوماً يفكر في شخص بعينه أو فكرة بعينها قد يحدث ذلك وقد يتسرب منه النص بحيث لا يدري هو نفسه ما الذي كان يعنيه هنا
وتستطيع من قراءاتك لبعض النصوص تفسيرها بأكثر من طريقة وفي كلّ واحد تجد ذكاء محفوظ وبساطته الماكرة حاضرين في خفّة أدبية رقراقة
أحببتُ هذه النصوص =-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
يطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة لا أدري كيف أتناسى دنو النهاية وهيمنة الوداع تحية للعمر الطويل الذي أمضيته في الأمان والغبطة تحية لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة والعدل الآن يؤذن الصوت الأبدي بالرحيل ودع دنياك الجميلة واذهب إلى المجهول وما المجهول يا قلبي إلا الفناء دع عنك ترهات الانتقال إلى حياة أخرى كيف ولماذا وأي حكمة تبرر وجودها؟ أما المعقول حقا فهو ما يحزن له قلبي الوداع أيتها الحياة التي تلقيت منها كل معنى ثم انقضت مخلفة تاريخا خاليا من أي معنى من خواطر جنين في نهاية شهره التاسع
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
ذهبت إلى محام معروف بلا تردد ما أجمل صراحته حين قال لي أنت صاحب حق ، ولكن خصمك أيضا صاحب حق- فقلت له عرضت عليه أن نحتكم إلى شخص يكون موضع ثقتنا معا- هيهات أن يوجد هذا الشخص في زماننا-
لدي خطابات مسجلة ستعرف منها المحكمة حسن نيتي-
قد يطعن فيها بالتزوير-
الحق أني برئ مائة في المائة-
ألم تهدده في لحظة غضب بالقتل؟-
هو نفسه لم يأخذ كلامي مأخذ الجد-
بل قام باحتياطات كثيرة، وزار الأضرحة ونذر النذور- فهتفت ضاحكا: هذا هو الجنون
عليك أن تثبت أنه مجنون ،خاصةوأن محاميه سيحاول من ناحيته أن يثبت جنوك-
فأغرقت في الضحك حتى قال المحامي لا يوجد ما يدعو إلى الضحك-
اتهامي بالجنون مثير للضحك- بل أنه يدعو للأسى- لماذا يا سيدي؟- الجنون يدعو للأسى- طالما أني عاقل فلا أهمية للاتهام- ولكن عدم الاهتمام قد يعني الجنون نفسه-
فسألته بذهول هل يداخلك شك في عقلي؟- بل إني على يقين، اختلافكما المزمن يدل على جنونكما معا- لكنك أبديت استعدادا طيبا للدفاع عني؟- إنه واجبي-
وتنهد المحامي من أعماقه وواصل ولا تنس أنني مجنون مثلكما-
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
قال الأستاذ البلاغة سحر فأمنا على قوله ورحنا نستبق في ضرب الأمثال ثم سرح بي الخيال إلى ماض بعيد يهيم في السذاجة تذكرت كلمات بسيطة لا وزن لها في ذاتها مثل
أنت.. فيم تفكر.. طيب .. يا لك من ماكر
ولكن لسحرها الغريب الغامض جنّ أُناس...وثمل آخرون بسعادة لا توصف
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
سألت الشيخ عبد ربه التائه لماذا يغلب عليك التفاؤل؟
فأجاب لأننا ما زلنا نعجب بالأقوال الجميلة حتى وإن لم نعمل بها
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
قال الشيخ عبد ربه التائه حاولت يوما العزلة ولكن تنهدات البشر اقتحمت خلوتي
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
قال الشيخ عبد ربه التائه لقد فتح باب اللانهاية عندما قال : أفلا تعقلون
"فمن يستطيع أن يثبت أن السعادة كانت واقعًا حيًّا، لا حلمًا ولا وهمًا؟.."
"لابد من شيء من الفوضى كي يفيق الغافل من غفلته."
"أما الزمان والمكان فلا ثبات لهما، وأما الشوق فلا يورث إلا الحزن."
"يطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة. لا أدري كيف أتناسى دنو النهاية وهيمنة الوداع. تحية للعمر الطويل الذي أمضيته في الأمان والغبطة. تحية لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة."
"وتبين لي أن بيني وبين الموت عتابًا، ولكنني مقضي عليّ بالأمل."
"حب الدنيا آية من آيات الشكر، ودليل ولع بكل جميل، وعلامة من علامات الصبر."
"إن خرجنا سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل."
"حقا لقد غاردت الدنيا أيها العزيز، كما أنها قد غادرتك."
يصعب التعامل مع كتاب أصداء السيرة الذاتية للأديب العالمي نجيب محفوظ كباقي مؤلفاته ، ذلك لأنه أقرب للقطع الأدبية المركزة والمقتصدة والمكثقة تعتمد على الرمزية ، كانت تنشر له بشكل إسبوعي فى جريدة الأهرام عام 1994 تحت عنوان أصداء السيرة الذاتية ثم تم جمعها فى كتاب واحد فيما بعد
عندما تقرأ هذا الكتاب البديع تشعر أنك فى حضرة روح رجل تقدم به العمر فزينت الأيام قلبه بالحكمة وعقله بالرجاحة وقلمه بالجمال ، رجل ذاب في الدنيا وذابت الدنيا فيه ، تشعر أنك تلمس بقلبك ملمس تجاعيد الوجه المهيب وروعة المعاني وسلاسة الأسلوب ، إنها ملخص التجربة وخلاصة الحياة وعصير الأيام وعصارة الحكمة لرجل يدرك ان ما هو آت من العمر لن يكون أطول مما مضى منه ، وأن المستقبل لن يكون بقوة الماضي ، فيهديك جرعة مكثفة من أيام حياته الحافلة
إنها تجليات الأديب الكبير صاحب القلم الثري الموهوب الذي كتب وأبدع وعُرف ونال شهرة واسعة ، هذه الأصداء مثل أمواج المشاعر العذبة التي تجعلك تفكر بقلبك وتشعر بعقلك ، لتحملك هذه الأمواج فى ترنح عجيب بين الماضي والحاضر .. الخير والشر .. العدل والظلم .. الحب والكراهية .. النور والظلام .. الأُنس والفقد .. البداية و النهاية .. الحياة والموت .. الدنيا والآخرة .
لا تعتبر “أصداء السيرة الذاتية ” سيرة ذاتية لنجيب محفوظ ، فقد رفض أن يكتب سيرته الذاتية مبرراً ذلك بقوله : “هناك عشرات المقابلات معي في مختلف وسائل الإعلام و لا حاجة توجد لكتابة سيرتي الذاتي” ، ولكننا نجد حياته موجودة ومختزلة فى كل لقطات الأصداء من خلال شخصية ” عبد ربه التائه ” التي ظهرت فى الثلث الأخير من الكتاب
ذلك الرجل الذي كان ينادي ” ولد تائه يا ولاد الحلال ” ولما سُئل عن أوصاف الولد المفقود قال : ” فقدته منذ أكثر من سبعين عاماً فغابت عني جميع أوصافه. فعُرف بعد ربه التائه . وكنا نلقاه فى الطريق أو المقهى أو الكهف ، وفي كهف الصحراء يجتمع بالأصحاب حيث ترمي بهم فرحة المناجاة في غيبوبة النشوات ، فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى وأن يسمى كهفهم بالخمارة . ومنذ عرفته داومت على لقائه ما وسعنى الوقت وأذن لي الفراغ ، وإن فى صحبته مسرة ، وفي كلامه متعة ، وإن استعصى على العقل أحياناً. “
هكذا كان التعريف المناسب للشخصية الممثلة لذاته ، ثم يخرج لنا عبد ربه التائه بكلامه الحكيم الممتع والمفيد على مدار الكتاب ، عن طريق حوار تخيلي بين الراوي والشيخ عبد ربه التائه، فتجده يحدثك تارة عن السياسة عندما يقول: “سألت الشيخ عبد ربه التائه : متى يصلح حال البلد؟ ، فأجاب : عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة “
ويحدثك عن الرحمة تارة أخرى قائلاً : “سألت الشيخ عبد ربه التائه: كيف لتلك الحوادث أن تقع فى عالم هو من صنع رحمن رحيم؟ .. فأجاب بهدوء : لولا أنه رحمن رحيم ما وقعت ! ” ، ثم يحدثك عن الشكر قائلاً: “قال الشيخ عبد ربه التائه: الحمد لله الذي أنقذنا وجوده من العبث فى الدنيا ومن الفناء فى الآخر”
ويحدثك عن الدنيا والآخرة قائلاً: “قال الشيخ عبد ربه التائه: إذا أحببت الدنيا بصدق ، أحبتك الآخرة بجدارة ” ، ويحدثك عن معنى الحياة قائلاً: “قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني قوم وقالوا إنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة ، فقلت لهم تحركوا دون إبطاء ، فالمعنى كامن فى الحركة” ، ثم يحدثك عن الموت قائلاً: ” عندما يلم الموت بالآخر ، يذكرنا بأننا مازلنا نمرح فى نعمة الحياة ” .
لا شك فى وجود غموض فى بعض الأصداء ، ولكنه غموض باعث على التفكر والتأمل والتدبر، كما قد تصيبك الحيرة عند قراءة هذه الأصداء ، فتارة تشعر أنك أمام نص فلسفي عقلاني مُحكم كُتب على يد أحد كبار الفلاسفة ، ثم ما تلبث أن تشعر أنك أمام نص صوفي روحاني صافي كُتب على يد أحد كبار أعلام الصوفية ، ذلك التأرجح بين العقل والروح أو المادة وما وراء المادة بإسلوب سلس بسيط يخلو تماماً من التعقيد ويقترب من النفس البشرية
ورغم أن هذه الأصداء لم تحظى بالشهرة التي حظيت بها أعماله الأخرى إلا إن النقاد وجدوا أن أصداء السيرة الذاتية تعتبر من أهم ما كتب وتمثل خلاصة فنه و تجربته و خبرته ، لذلك أدعوك صديقي خصوصاً ونحن نحتفي بئموية نجيب محفوظ أن تقراءة هذا الكتاب لتسمتع وتتعلم .. وتندهش!