...
Show More
٤.٥
"ولكن كاتب هذه السطور يدلف في سنته التاسعة والسبعين، بعد أن عاش عيش المرح واليسار، وقد دفأ كلتا يديه على نار الحياة، وها هو الآن مستعد للرحيل عنها وقد أخذت تنحدر به في دور من العلة والوسوسة. وهكذا ينتظر خاتمته وهو يرقب البشرية وهي لا تزال متحمسة لاستخدام ما جمعه من خبرة استخداما نافعا يعينها في هذا الزمن، زمن الاضطراب العقلي."
أنهى المؤلف كتابه بهذه النهاية العاطفية، وكأن في إنهائه لتاريخ العالم إيحاء بقرب نهايته كذلك.
كان خط التاريخ مضطربا متوترا لا تهدأ له حدة، وكذلك حياة الفرد، ولقد مر التاريخ بطفولة ورشد وكهولة، كما هو الفرد، ولقد رأيت فيه قول الشاعر: "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر"، وعلى الرغم من الكم الهائل من المعاني الذي قد نستخرجه من هذا البيت المذهل، إلا أن أحدها يكمن في تأكيد ما قرأته في ذاكرة العالم تلك، فلكأن البشرية فرد، والتاريخ ذاكرته.. الإنسان رمز، والكون انعكاسه. بل لم يكد يكون للتاريخ قيمة لولا اهتمام الإنسان به، ولا لهذا الكون معنى لولا الروح المكتشفة له.. هذا الإنسان الذي أوصله علمه لتمجيد الطبيعة على حساب آدميته، ونسي أنه هو من أعطاها المسميات، وأوجدها باعترافه، وكرمها باكتشافه، هو من يملك السلطة عليها بتسخير من الخالق له، كل هذا هو ما يجعله مكرما متميزا عن بقية المخلوقات.. لا مجرد خلية مهانة حالفها الحظ لتكون ما عليه إنساننا اليوم.
رائع!
هذا ما يمكن وصف الكتاب به، ولكي تتضح المميزات، وتتبين السمات، فقد ملت إلى اتخاذ "أسلوب المقارنة" كطريقة أرسم من خلالها ولو فكرة موجزة عن هذا الموجز، فمن خلال مقارنته بكتاب آخر يشابهه في مجاله، ستظهر بوضوح عدة نقاط اختلاف هي بحد ذاتها تبين سمات الكتاب، كما أنها ستجعلني أمر على ذكر ما قد لا يخطر على بالي حين الحديث عنه جزافا دونما أي حد أو قياس.
لذا سأنطلق في حديثي عنه بمقارنته مع ما سبق لي قراءته في مجال التاريخ، وهي كتب التاريخ التراثية تحديدا، كالبداية والنهاية لابن كثير.
١- كما هو واضح على عنوان الكتاب، فالكتاب موجز، وهذا ما لم يتسم به كتاب البداية والنهاية، ولكل منهما مميزاته في هذه النقطة، فالإيجاز يريك الصورة من بعيد، ويرسم خارطة مصغرة للتاريخ في ذهنك، ويعطيك أبرز الأحداث وأهمها باختصار، وهذا ما قد يحرمك من تفاصيل كثيرة هي قد تكون مهمة لكن الكاتب لا يستطيع ذكرها لكيلا يطول المقام، أو لعدم رؤيته لها كمهمة، كما أن الإسهاب يجعلك تعي المراحل الزمنية بشكل موسع ومفصل لا يستطيعه الإيجاز.
٢- الكاتب غربي، وهي زاوية بالنسبة لي جديدة لأرى العالم من خلالها، وقد تكون جيدة كتجربة أولى، لا سيما وأنني أنوي القراءة قريبا بشكل موسع لسلسلة ديورانت بإذن الله، وكون الكاتب غربي يقتضي اختلاف الأفكار المفاهيم والمنطلقات، وكذلك زاوية الاهتمام والرصد، فهنا كدت لا أرى تاريخ العالم العربي والإسلامي لولا بزوغ فجر محمد -صلى الله عليه وسلم- بزوغا أضاء المشرقين، مما لا يدع مجالا لأي مؤرخ أن لا يمر على مرحلته التاريخية ولو على عجالة ويتحدث عنها، فحديثه عن التاريخ الإسلامي عامة قارب الست صفحات أو جاوزها بقليل، كما أن زاوية التصوير منطلقة من الغرب لا من الشرق، فكأن الأساس هو التاريخ الغربي ما لم يبزغ في الشرق ما يستدعي الالتفات إليه، وهو أمر بالنسبة لي متقبل، إذ كذلك الحال مع كتبنا التاريخية في انطلاقها من الزاوية الإسلامية، فكما أنني هنا تعرفت على التاريخ البيزنطي واللاتيني بشكل أكبر، كان حظهما أقل في البداية والنهاية، إذ كان مسار التاريخ ينطلق من زاوية المشرق، والعالم الإسلامي خاصة، وهو أمر كما ذكرت متقبل بالنسبة لي، ولكن البعض قد يجده غير مقبول من مؤرخي هذا العصر العلميين المدعين للحياد-والذي لا أؤمن بوجوده بالمناسبة-.
٣- المؤرخ هنا ينطلق تحت ضوء العلم الحديث واستجابة لاكتشافاته، وهو ما لا يتفق مع منهجية البداية والنهاية -كمثال- البتة، فالأخير وأشباهه يرصدون التاريخ تحت ضوء الدين، كما أن المنهجية تعتمد على النقل والخبر لا الحس والتجربة، وبالرغم من اكتمال الحسن بقراءتي للتاريخ من الزاويتين، وذلك لإيماني بوجود حقيقة تحت ظل كل منهم��، إلا أنه بلا شك يجب التنبيه على عدم إطلاقية الأول في مدى مصداقيته ومعرفته لاقتصاره على الحس البشري الذي قد يصيبه النقص ويحده القصور، وكذلك الثاني فيما اقتصر على القيل والقال مما قد يدخل فيه الكذب والمبالغة، والمرء دائما يبقى ناقدا واعيا في تقصيه للتاريخ وتقفي آثاره.
٤- هنا المؤلف لا تبدأ حكايته مع البشرية، بل مع الخلية الأولى، والانفجار الكبير، مع الخطوة الأولى التي يظن إنسان العصر الحديث أنها أول ما استطاع أن يصل إليه باكتشافاته في معرفة بدايات هذا العالم، لذا فستمر على عصور وقرون لم يكن لك حظ فيها أيها الإنسان حتى يبزغ فجرك -وذلك بناء على النظريات الحديثة، داروين تحديدا-، أما البداية والنهاية -مثلا- فيبدأ مع آدم وحواء، مع الجنة الأولى للبشرية وفق مصدر ميتافيزيقي نؤمن به كمصدر للمعرفة، ولا أحتاج لتنبيهك إلى أن القراءة هنا تكون بعين الناقد والواعي لا المستسلم للنزعة العلموية في العصر الحديث.
٥- هنا التأريخ يتعامل مع القرون والعصور لا الأفراد، يقسمها بناء على مميز بيولوجي أو حضاري، يركز فيه على سمات العصر وأبرز أعلامه كمؤثرين في التاريخ والحضارة بشكل واضح وجلي، لذا فالتركيز لا على الأشخاص كأشخاص وإن علت قيمتهم، بل على العصر من حيث تأثيرهم فيه وبسط سلطانهم عليه، لذا فتجد المسميات تميل لوصف العصر بسمة تميزه لا بمسميات أشخاص وأعيان، وإن وجد فلقوة تأثيرهم وانتشار فكرهم حتى كاد العصر أن ينسب إليهم، وذلك ما لا تجده بتلك الصورة في البداية والنهاية -كمثال-، فهو يتعرض للأشخاص ويسرد تاريخهم وأبرز ملامح حياتهم، وقد يوغل في التفاصيل ويسهب.
هذه بعض السمات التي لحظتها في الكتاب مقارنة بغيره، كما أنني يجب أن أشير بامتنان إلى الجدول التاريخي الزمني الذي وضعه المؤلف في آخر الكتاب، وهو بلا شك مما يستنزف الجهد، ويستظهر طول نفس المؤلف ومحاولته الإنجاز بالإيجاز.
وكما أشرت سابقا إلى عدم إيماني بما يدعى "الحياد وعدم الانحياز" والذي أصبحت لا أشدد عليه في قراءاتي أو اطلاعي العام على آراء الناس وأقوالهم، فالمهم أن يعي الناس عدم حيادهم مطلقا كي لا يلزموا الناس بآرائهم، وأن يعلموا أن الانحياز طبع إنساني مطلق، فهل يستطيع أحدنا أن يدعي عدم ركونه لمبدأ أو إعجابه بأمر؟ حسنا.. هل تدعي ذلك؟ مبارك .. هذا بحد ذاته انحياز لهذا المبدأ وركون إليه، لذا فالانحياز لأمر ليس بعيب ولا خطأ، لكن الخطأ يكمن في انحيازك لما لا يستحق، لذا لا تكن حياديا.. لكن اختر الزاوية الصحيحة للرؤية.
لماذا قلت ذلك؟ لأنني أكره تلك الرائحة النتنة، تلك العنصرية المستحدثة، عنصرية العالم الطبيعي تجاه الدين، واستخدام سلطته في عصره، عصر العلم في تحقير نده، عفوا هو ليس ندا حقيقيا له، بل هو من صنعه ليحاربه، كما هي طبيعة البشرية على مدى التاريخ، فالحرب قائمة.. ولا تسل عن سبب إشعالها، لأنها ستحدث بأي سبب ولأي سبب. ما دعاني لقول ذلك هو تحامل المؤلف في أكثر من موضع على المتدينين، ورغم أنه -وللإنصاف- كان محترما جدا في حديثه عن محمد -عليه الصلاة والسلام-، وغيره من الأنبياء، بل ويظهر حبه لعيسى وتقديره له، إلا أنه كعادة الكثير من علماء الغرب الذين لا زالوا يحملون في قلوبهم ذرة من التدين، يقصون الدين في كل أمر سوى جانبه الروحي، والمشكلة التي تعنيني هنا هو أني أؤمن وبكل ثقة أن ذلك ينعكس على منهج تأريخ هؤلاء العلماء وطريقة تأليفهم، لأني أعلم أن الانحياز المسبق للعلم كند للدين، يجعل العالم يفسر ودون أن يشعر كل أمر بعيدا عن التصور الديني، بل ومضادا له، وهو أمر يفرحني ويؤكد كلامي، فبالرغم من شعورك بما يسمى حيادا خلال السطور، إلا أن العاطفة تغلب الإنسان في نهاية الأمر، فيظهر تحامله ما بين الفينة والأخرى، كما أن الانحياز في سرد التاريخ ووصفه بناء على الجانب المادي والحضاري هو في حد ذاته بعد عن الحياد، فهل التاريخ بضعة أهرامات وأعمدة بناها الإنسان؟ وهل كسرى وقيصر أجدر بالذكر من نبي بلغ الرسالة؟ أو ولي أقر بالوحدانية؟ هي أشياء لا ترى.. فلا المنظار التجريبي يرى عظمتها، ولا الميزان الحسي يشعر بوزنها، ولا المقياس المادي يعي حجمها.. أقول ذلك لا تقليلا في المنهج العلمي في قراءة أو رصد أي مجال، ولكن تذكيرا بحقيقة أخشى أن تدرس في يوم من الأيام، ولفت نظر لمفاهيم أخشى أن تنسى في زمن من الأزمان.
آية الختام: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ( 7 ) أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ( 8 ) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 9 ) ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ( 10 ) الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون".
"ولكن كاتب هذه السطور يدلف في سنته التاسعة والسبعين، بعد أن عاش عيش المرح واليسار، وقد دفأ كلتا يديه على نار الحياة، وها هو الآن مستعد للرحيل عنها وقد أخذت تنحدر به في دور من العلة والوسوسة. وهكذا ينتظر خاتمته وهو يرقب البشرية وهي لا تزال متحمسة لاستخدام ما جمعه من خبرة استخداما نافعا يعينها في هذا الزمن، زمن الاضطراب العقلي."
أنهى المؤلف كتابه بهذه النهاية العاطفية، وكأن في إنهائه لتاريخ العالم إيحاء بقرب نهايته كذلك.
كان خط التاريخ مضطربا متوترا لا تهدأ له حدة، وكذلك حياة الفرد، ولقد مر التاريخ بطفولة ورشد وكهولة، كما هو الفرد، ولقد رأيت فيه قول الشاعر: "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر"، وعلى الرغم من الكم الهائل من المعاني الذي قد نستخرجه من هذا البيت المذهل، إلا أن أحدها يكمن في تأكيد ما قرأته في ذاكرة العالم تلك، فلكأن البشرية فرد، والتاريخ ذاكرته.. الإنسان رمز، والكون انعكاسه. بل لم يكد يكون للتاريخ قيمة لولا اهتمام الإنسان به، ولا لهذا الكون معنى لولا الروح المكتشفة له.. هذا الإنسان الذي أوصله علمه لتمجيد الطبيعة على حساب آدميته، ونسي أنه هو من أعطاها المسميات، وأوجدها باعترافه، وكرمها باكتشافه، هو من يملك السلطة عليها بتسخير من الخالق له، كل هذا هو ما يجعله مكرما متميزا عن بقية المخلوقات.. لا مجرد خلية مهانة حالفها الحظ لتكون ما عليه إنساننا اليوم.
رائع!
هذا ما يمكن وصف الكتاب به، ولكي تتضح المميزات، وتتبين السمات، فقد ملت إلى اتخاذ "أسلوب المقارنة" كطريقة أرسم من خلالها ولو فكرة موجزة عن هذا الموجز، فمن خلال مقارنته بكتاب آخر يشابهه في مجاله، ستظهر بوضوح عدة نقاط اختلاف هي بحد ذاتها تبين سمات الكتاب، كما أنها ستجعلني أمر على ذكر ما قد لا يخطر على بالي حين الحديث عنه جزافا دونما أي حد أو قياس.
لذا سأنطلق في حديثي عنه بمقارنته مع ما سبق لي قراءته في مجال التاريخ، وهي كتب التاريخ التراثية تحديدا، كالبداية والنهاية لابن كثير.
١- كما هو واضح على عنوان الكتاب، فالكتاب موجز، وهذا ما لم يتسم به كتاب البداية والنهاية، ولكل منهما مميزاته في هذه النقطة، فالإيجاز يريك الصورة من بعيد، ويرسم خارطة مصغرة للتاريخ في ذهنك، ويعطيك أبرز الأحداث وأهمها باختصار، وهذا ما قد يحرمك من تفاصيل كثيرة هي قد تكون مهمة لكن الكاتب لا يستطيع ذكرها لكيلا يطول المقام، أو لعدم رؤيته لها كمهمة، كما أن الإسهاب يجعلك تعي المراحل الزمنية بشكل موسع ومفصل لا يستطيعه الإيجاز.
٢- الكاتب غربي، وهي زاوية بالنسبة لي جديدة لأرى العالم من خلالها، وقد تكون جيدة كتجربة أولى، لا سيما وأنني أنوي القراءة قريبا بشكل موسع لسلسلة ديورانت بإذن الله، وكون الكاتب غربي يقتضي اختلاف الأفكار المفاهيم والمنطلقات، وكذلك زاوية الاهتمام والرصد، فهنا كدت لا أرى تاريخ العالم العربي والإسلامي لولا بزوغ فجر محمد -صلى الله عليه وسلم- بزوغا أضاء المشرقين، مما لا يدع مجالا لأي مؤرخ أن لا يمر على مرحلته التاريخية ولو على عجالة ويتحدث عنها، فحديثه عن التاريخ الإسلامي عامة قارب الست صفحات أو جاوزها بقليل، كما أن زاوية التصوير منطلقة من الغرب لا من الشرق، فكأن الأساس هو التاريخ الغربي ما لم يبزغ في الشرق ما يستدعي الالتفات إليه، وهو أمر بالنسبة لي متقبل، إذ كذلك الحال مع كتبنا التاريخية في انطلاقها من الزاوية الإسلامية، فكما أنني هنا تعرفت على التاريخ البيزنطي واللاتيني بشكل أكبر، كان حظهما أقل في البداية والنهاية، إذ كان مسار التاريخ ينطلق من زاوية المشرق، والعالم الإسلامي خاصة، وهو أمر كما ذكرت متقبل بالنسبة لي، ولكن البعض قد يجده غير مقبول من مؤرخي هذا العصر العلميين المدعين للحياد-والذي لا أؤمن بوجوده بالمناسبة-.
٣- المؤرخ هنا ينطلق تحت ضوء العلم الحديث واستجابة لاكتشافاته، وهو ما لا يتفق مع منهجية البداية والنهاية -كمثال- البتة، فالأخير وأشباهه يرصدون التاريخ تحت ضوء الدين، كما أن المنهجية تعتمد على النقل والخبر لا الحس والتجربة، وبالرغم من اكتمال الحسن بقراءتي للتاريخ من الزاويتين، وذلك لإيماني بوجود حقيقة تحت ظل كل منهم��، إلا أنه بلا شك يجب التنبيه على عدم إطلاقية الأول في مدى مصداقيته ومعرفته لاقتصاره على الحس البشري الذي قد يصيبه النقص ويحده القصور، وكذلك الثاني فيما اقتصر على القيل والقال مما قد يدخل فيه الكذب والمبالغة، والمرء دائما يبقى ناقدا واعيا في تقصيه للتاريخ وتقفي آثاره.
٤- هنا المؤلف لا تبدأ حكايته مع البشرية، بل مع الخلية الأولى، والانفجار الكبير، مع الخطوة الأولى التي يظن إنسان العصر الحديث أنها أول ما استطاع أن يصل إليه باكتشافاته في معرفة بدايات هذا العالم، لذا فستمر على عصور وقرون لم يكن لك حظ فيها أيها الإنسان حتى يبزغ فجرك -وذلك بناء على النظريات الحديثة، داروين تحديدا-، أما البداية والنهاية -مثلا- فيبدأ مع آدم وحواء، مع الجنة الأولى للبشرية وفق مصدر ميتافيزيقي نؤمن به كمصدر للمعرفة، ولا أحتاج لتنبيهك إلى أن القراءة هنا تكون بعين الناقد والواعي لا المستسلم للنزعة العلموية في العصر الحديث.
٥- هنا التأريخ يتعامل مع القرون والعصور لا الأفراد، يقسمها بناء على مميز بيولوجي أو حضاري، يركز فيه على سمات العصر وأبرز أعلامه كمؤثرين في التاريخ والحضارة بشكل واضح وجلي، لذا فالتركيز لا على الأشخاص كأشخاص وإن علت قيمتهم، بل على العصر من حيث تأثيرهم فيه وبسط سلطانهم عليه، لذا فتجد المسميات تميل لوصف العصر بسمة تميزه لا بمسميات أشخاص وأعيان، وإن وجد فلقوة تأثيرهم وانتشار فكرهم حتى كاد العصر أن ينسب إليهم، وذلك ما لا تجده بتلك الصورة في البداية والنهاية -كمثال-، فهو يتعرض للأشخاص ويسرد تاريخهم وأبرز ملامح حياتهم، وقد يوغل في التفاصيل ويسهب.
هذه بعض السمات التي لحظتها في الكتاب مقارنة بغيره، كما أنني يجب أن أشير بامتنان إلى الجدول التاريخي الزمني الذي وضعه المؤلف في آخر الكتاب، وهو بلا شك مما يستنزف الجهد، ويستظهر طول نفس المؤلف ومحاولته الإنجاز بالإيجاز.
وكما أشرت سابقا إلى عدم إيماني بما يدعى "الحياد وعدم الانحياز" والذي أصبحت لا أشدد عليه في قراءاتي أو اطلاعي العام على آراء الناس وأقوالهم، فالمهم أن يعي الناس عدم حيادهم مطلقا كي لا يلزموا الناس بآرائهم، وأن يعلموا أن الانحياز طبع إنساني مطلق، فهل يستطيع أحدنا أن يدعي عدم ركونه لمبدأ أو إعجابه بأمر؟ حسنا.. هل تدعي ذلك؟ مبارك .. هذا بحد ذاته انحياز لهذا المبدأ وركون إليه، لذا فالانحياز لأمر ليس بعيب ولا خطأ، لكن الخطأ يكمن في انحيازك لما لا يستحق، لذا لا تكن حياديا.. لكن اختر الزاوية الصحيحة للرؤية.
لماذا قلت ذلك؟ لأنني أكره تلك الرائحة النتنة، تلك العنصرية المستحدثة، عنصرية العالم الطبيعي تجاه الدين، واستخدام سلطته في عصره، عصر العلم في تحقير نده، عفوا هو ليس ندا حقيقيا له، بل هو من صنعه ليحاربه، كما هي طبيعة البشرية على مدى التاريخ، فالحرب قائمة.. ولا تسل عن سبب إشعالها، لأنها ستحدث بأي سبب ولأي سبب. ما دعاني لقول ذلك هو تحامل المؤلف في أكثر من موضع على المتدينين، ورغم أنه -وللإنصاف- كان محترما جدا في حديثه عن محمد -عليه الصلاة والسلام-، وغيره من الأنبياء، بل ويظهر حبه لعيسى وتقديره له، إلا أنه كعادة الكثير من علماء الغرب الذين لا زالوا يحملون في قلوبهم ذرة من التدين، يقصون الدين في كل أمر سوى جانبه الروحي، والمشكلة التي تعنيني هنا هو أني أؤمن وبكل ثقة أن ذلك ينعكس على منهج تأريخ هؤلاء العلماء وطريقة تأليفهم، لأني أعلم أن الانحياز المسبق للعلم كند للدين، يجعل العالم يفسر ودون أن يشعر كل أمر بعيدا عن التصور الديني، بل ومضادا له، وهو أمر يفرحني ويؤكد كلامي، فبالرغم من شعورك بما يسمى حيادا خلال السطور، إلا أن العاطفة تغلب الإنسان في نهاية الأمر، فيظهر تحامله ما بين الفينة والأخرى، كما أن الانحياز في سرد التاريخ ووصفه بناء على الجانب المادي والحضاري هو في حد ذاته بعد عن الحياد، فهل التاريخ بضعة أهرامات وأعمدة بناها الإنسان؟ وهل كسرى وقيصر أجدر بالذكر من نبي بلغ الرسالة؟ أو ولي أقر بالوحدانية؟ هي أشياء لا ترى.. فلا المنظار التجريبي يرى عظمتها، ولا الميزان الحسي يشعر بوزنها، ولا المقياس المادي يعي حجمها.. أقول ذلك لا تقليلا في المنهج العلمي في قراءة أو رصد أي مجال، ولكن تذكيرا بحقيقة أخشى أن تدرس في يوم من الأيام، ولفت نظر لمفاهيم أخشى أن تنسى في زمن من الأزمان.
آية الختام: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ( 7 ) أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ( 8 ) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 9 ) ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ( 10 ) الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون".