...
Show More
"هذا هو نوع الموت الذي يُخفيني. أن يقترب ظل الموت ببطء، وببطء يلتهم بقية الحياة، وقبل أن تعرف، يُظلم كُل شيء حولك، فلا ترى، ويعتقد الناس حواليك أنك ميت أكثر منك حياً. أكره هذا. ولا أستطيع احتماله."
التجربة الثالثة لي مع هاروكي، ويجب علي الاعتراف، هاروكي كاتب مجنون للغاية، أفكاره، طريقة سرده، ألفاظه، وحتى مواضيع رواياته، في هذه الرواية مثلاً لو كتبها أي كاتب غير هاروكي ستكون عادية جداً، حكاية نمطية رُبما، ولكنه تلك القُدرة الهاروكية، التي جعلت هذه الرواية واحدة من المُفضلات بالنسبة لي.
رواية تحمل أوجاع دفينة، تتكلم عن الحُب والموت والحزن، تلك السرمدية في الأفكار التي جرنا إليا هاروكي، عبثية الحياة ولامنطقيتها.. أحياناً، ولكن بطريقة عادية، ورُبما مُملة.. ولكنه ملل مُمتع -هل يصح ذلك التعبير؟- مع هاروكي يصح طبعاً، الإنغماس في تفاصيل العلاقات مع تورو وناوكو وميدوري كان جذاباً مع أنه مُملاً، ولكنها فُرشة الفنان هاروكي، من أضاف إلى تلك العلاقات من سرده وكلماته، ما جعلها مُمتعة.
وكالعادة، وبالرغم أنه غالباً الأحداث قليلة، ورُبما تكون غير مُمتعة إطلاقاً، ولكنك تهرول مع الأحداث والسرد.. تلتهم الكلمات، وتطربك الموسيقى بداخلها، يكاد كُل سطر يلمس دواخلك، إذا هذه رواية تتحدث عن الأنفس البشرية، وهذا كاتب مجنون من اليابان؛ جيد جداً في تشريحها.
"رُبما لم أتكيف مع العالم حتى الآن. لا أعرف، أشعر وكأن هذا العالم ليس بالعالم الحقيقي. الناس، المشهد: لا يبدون لي حقيقيين."
رُبما من الغريب أن نخوض مع مجموعة من المراهقين قضايا عميقة، فهم لم يتجاوزوا حتى العشرين من عمرهم، من أين لهم الخبرة؟ من أين لهم بالثقل؟ ونظرة العين الخاملة؟ تلك العلامات التي تعرف من خلالها أنك كبرت.. صمتك الدائم، وخمود روحك، وإنطفاء كُل شعلة حماس كانت فيك، ماذا فقدوه في تلك السن المُبكرة؟ أين شغفهم في الحياة؟
أيعقل أن تلك الكرة الحارقة بالصدر قد أنطفأت عندهم؟
بالفعل، شخصيات الرواية مُميزين للغاية، أفكارهم وتصرفاتهم، علاقاتهم، وتلك الطريقة التي يعيشون بها، وكأنهم أدركوا حقيقة الكون الكُبرى، أن كُل ذلك عبث، الحياة نوعاً ما عبث، فلماذا أكلف نفسي بأي شيء؟ ومع كاتب مثل هاروكي، جعل الضبابية حولك في كُل شيء، توغلت في الأحداث وأفكار شخصيات، حتى النهاية، ضبابية، غير مُريحة. ولكن يكتمل بها جمال الرواية.
يوماً ما، كانت لدي فتاة
أو علي أن أقول، يوماً ما، كان لديها أنا
أرتني غرفتها
أليست غابة نروجية جيدة؟
طلبت مني أن أمكث
وقالت لي: أجلس في أي مكان
فنظرت حولي
ولكني لاحظت أنه لا يوجد أي مقعد
جلست على بساط أترقب وقتي
شربت خمرها
تحدثنا حتى الثانية ثم قالت:
حان وقت النوم!
حتى الأغنية التي اختارها هاروكي ليعنون بها روايته، غير مُريحة بنهايتها الحزينة والضبابية أيضاً.. كالحياة.
غير مُريحة، وضبابية، وصدقني، لا تُناسبنا جميعاً.