...
Show More
إنكار الموت
(1)
دائمًا ما أجد نفسي عاجزًا عن مراجعة الكتب المهمة؛ لإنني متى ما حاولتُ ذلك، يكون الكتابُ قد تسرّب داخل (عقلي) وبدأت أفكارهُ تتصالح وتتصادم مع أفكارٍ قديمة؛ لذلك عادةً ما أميلُ إلى أن الكتب الجيدة تُقرأ ولا يُكتَب عنها، لكني سأحاول رغم ذلك. ولكي أبلور فكرتي الخاصة، عليّ أولًا أن أنسَ أني قد قرأتُ ما كُتِبَ على غلاف الكتاب الأخير، وكذلك ما كتبه مارك مانسون في "فن اللامبالاة" مع أني ممتن لهذا الأخير؛ حيث شجعني على قراءة كتاب إرنست بيكر ولا يمكنني تجاهل ما قاله عن شخصية الكاتب في بضعة صفحاتٍ، في آخر "لامبالاته".
(2)
لعلّ عنوانَ الكتاب يخدع القارئ في بداية الأمر (وهذا ما حدث معي)؛ فهو لا يتحدّث عن الموت كما تتوقع منه، وإن كان الموت وهواجسٌ أخر جوهر هذا الكتاب. إذن، ما هو موضوع الكتاب؟
البدايةُ، مَنْ هو الإنسان؟ إنّهُ حيوانٌ ورمز - بحسب إريك فروم، أو حيوانٌ وخيال - بحسب يوڤال نوح هَراري. التعريفان ينطويان على جزئين: بايولوجي وثقافي-حضاري. لا يهمنا الجزء الأول منه؛ فوعيّ الإنسان بذاته، هو محنته الأكبر، شعوره بضعفه ودونيته، أو ما يسميه الكاتب (مخلوقيّة الإنسان) ولا أظنّ ذلك اعترافًا دينيًا لإلهٍ أو دين. بحثَ الإنسانُ منذُ البداية عن ماهيته، لكنهُ لم يجد شيئًا، ويعتقد فروم أن ليس هناك ماهيّة وإنّما (جوهر الإنسان هو طبيعته المتناقضة)، لا تمتلك الحيوانات الأخرى ذلك التناقض، لا تشعر بالزمن، فالموت بالنسبة لها محض ثوانٍ من الألم أما الإنسان فإنّه فرد مطاردٌ طوال حياته من مصير الموت، ولو تمكّن هذا الهاجسُ منه لذهب إلى الجنون. الإنسانُ إلهٌ، أو هكذا يريد أن يكون لكنّه يحمل جسدًا حيوانيًّا، يتغوّط وتسيطرُ عليه الغرائز، أو كما يقول ماسلو: نحنُ (ديدانٌ وآلهة).
(3)
يكاد الكتاب أن يكون تاريخًا للتحليل النفسي، لكنّه لا يبتدأ بفرويد؛ فوجوديّة اللاهوتي الدنماركي كيركيغارد، كانت تعي مدى ضعف الإنسان الفرد ونهائيته مقابل لا نهائية الله والطبيعة، فلا طريقَ له إلّا بالانصهار في اللانهائية تلك، وبالتالي فلا يمكن أن تتمكّن منه هواجسه وإنّما يصبح خالدًا، انهزاميّة كيركيغارد مريحة جدًا رغم تنكرها لإنسانيتنا وانتصارها للغيب.
لم يتصوّر فرويد الإنسانَ إلّا حيوانًا تحركه الغرائز، وأيّ مقاومةٍ يوجهها الإنسان لها (الغرائز) بحكم (الحضارة والتربية والأخلاق والدين) فإنها سوف تؤدي إلى كبت، لذلك لجأ منذ البداية إلى محاولة وضع الإنسان أمام مرآة تفضح له بواطن لا وعيه، والغرائز التي كُبتت منذ الطفولة المبكرة. إذن فإنسانُ فرويد هو حيوانٌ يبحث عن المتعة، والحضارة تكبت الجنسانيّة. في أواخر كتاباته اهتمّ فرويد بمسألة الموت، لكنّه ناقش (غريزة الموت): الرغبةُ في الموت تؤدي إلى القتل، أي أن فرويد لم يتخلَّ عن نظرته الحيوانيّة للإنسان (الإنسان حيوانٌ يرتجف من الموت)، أما رانك وبراون، فيعتقدان أن ما يعاني منه الإنسان هو كبت الموت، فيصبح الموت هنا (مشكلةً). وهذا الرأي قريبٌ إلى رأي تلميذ فرويد (وعدوه فيما بعد)، يونغ.
(4)
يطرح المؤلف سؤلًا: ما هو الوهم الأفضل الذي يجب أن نتّبعه لتجاوز مشكلة الإنسان؟
بالنسبة لكيركيغارد ورانك (ويونغ؟)، هو الدين. ليس الدين الطقوسي وإنّما الدين الذي يمثل الأمل، والتفاني من أجل الخلود الجماعي، خلود الإنسانية مقابل فناء الفرد، الذي تماهى معها. أما فرويد فلا شيءَ لديه قادرٌ على ذلك، سوى المواجهة. ولو أردتُ تجاوز الكتاب قليلًا، ففي الفلسفة الألمانية ما يشبه هذين الرأيين المتناقضين، فهيغل، يعتقد بإن الإنسان، دون اللجوء إلى المطلق سوف يعاني الاغتراب، أما تلميذه فيورباخ، فيقلب ديالكتيك أستاذه رأسًا على عقب، ويظن أن الاغتراب ينشأ من تنكّر الإنسان لطبيعته وضياعه في ذلك الأمل الذي سبق وأن خلقه الإنسان نفسه لصورة الإنسان الكامل وهو الله.
(5)
يحاول المؤلف أن يجمع التحليل النفسي والدين والفلسفة، ليجد جوابًا لمعضلة الإنسان الأزليّة: الموت. لكنّه، وكما أظن لم يستطع إعطاء جوابًا مريحًا، كما لم يستطع گلگامش في بداية التاريخ، ولا يبدو لي ذلك فشلًا، فلا إجابات خارج الوهم، ولكنّي أميل إلى الوهم الشخصي، أو نسخة شخصيّة من وهم ملائم، لا يتنكّر للحظة الراهنة ويتكلّم لغة الحضارة العالميّة القائمة.
كان إرنست بيكر يعاني من السرطان ، فكتب هذا الكتاب، فقد أنكر الموتَ بالكتابة.
(1)
دائمًا ما أجد نفسي عاجزًا عن مراجعة الكتب المهمة؛ لإنني متى ما حاولتُ ذلك، يكون الكتابُ قد تسرّب داخل (عقلي) وبدأت أفكارهُ تتصالح وتتصادم مع أفكارٍ قديمة؛ لذلك عادةً ما أميلُ إلى أن الكتب الجيدة تُقرأ ولا يُكتَب عنها، لكني سأحاول رغم ذلك. ولكي أبلور فكرتي الخاصة، عليّ أولًا أن أنسَ أني قد قرأتُ ما كُتِبَ على غلاف الكتاب الأخير، وكذلك ما كتبه مارك مانسون في "فن اللامبالاة" مع أني ممتن لهذا الأخير؛ حيث شجعني على قراءة كتاب إرنست بيكر ولا يمكنني تجاهل ما قاله عن شخصية الكاتب في بضعة صفحاتٍ، في آخر "لامبالاته".
(2)
لعلّ عنوانَ الكتاب يخدع القارئ في بداية الأمر (وهذا ما حدث معي)؛ فهو لا يتحدّث عن الموت كما تتوقع منه، وإن كان الموت وهواجسٌ أخر جوهر هذا الكتاب. إذن، ما هو موضوع الكتاب؟
البدايةُ، مَنْ هو الإنسان؟ إنّهُ حيوانٌ ورمز - بحسب إريك فروم، أو حيوانٌ وخيال - بحسب يوڤال نوح هَراري. التعريفان ينطويان على جزئين: بايولوجي وثقافي-حضاري. لا يهمنا الجزء الأول منه؛ فوعيّ الإنسان بذاته، هو محنته الأكبر، شعوره بضعفه ودونيته، أو ما يسميه الكاتب (مخلوقيّة الإنسان) ولا أظنّ ذلك اعترافًا دينيًا لإلهٍ أو دين. بحثَ الإنسانُ منذُ البداية عن ماهيته، لكنهُ لم يجد شيئًا، ويعتقد فروم أن ليس هناك ماهيّة وإنّما (جوهر الإنسان هو طبيعته المتناقضة)، لا تمتلك الحيوانات الأخرى ذلك التناقض، لا تشعر بالزمن، فالموت بالنسبة لها محض ثوانٍ من الألم أما الإنسان فإنّه فرد مطاردٌ طوال حياته من مصير الموت، ولو تمكّن هذا الهاجسُ منه لذهب إلى الجنون. الإنسانُ إلهٌ، أو هكذا يريد أن يكون لكنّه يحمل جسدًا حيوانيًّا، يتغوّط وتسيطرُ عليه الغرائز، أو كما يقول ماسلو: نحنُ (ديدانٌ وآلهة).
(3)
يكاد الكتاب أن يكون تاريخًا للتحليل النفسي، لكنّه لا يبتدأ بفرويد؛ فوجوديّة اللاهوتي الدنماركي كيركيغارد، كانت تعي مدى ضعف الإنسان الفرد ونهائيته مقابل لا نهائية الله والطبيعة، فلا طريقَ له إلّا بالانصهار في اللانهائية تلك، وبالتالي فلا يمكن أن تتمكّن منه هواجسه وإنّما يصبح خالدًا، انهزاميّة كيركيغارد مريحة جدًا رغم تنكرها لإنسانيتنا وانتصارها للغيب.
لم يتصوّر فرويد الإنسانَ إلّا حيوانًا تحركه الغرائز، وأيّ مقاومةٍ يوجهها الإنسان لها (الغرائز) بحكم (الحضارة والتربية والأخلاق والدين) فإنها سوف تؤدي إلى كبت، لذلك لجأ منذ البداية إلى محاولة وضع الإنسان أمام مرآة تفضح له بواطن لا وعيه، والغرائز التي كُبتت منذ الطفولة المبكرة. إذن فإنسانُ فرويد هو حيوانٌ يبحث عن المتعة، والحضارة تكبت الجنسانيّة. في أواخر كتاباته اهتمّ فرويد بمسألة الموت، لكنّه ناقش (غريزة الموت): الرغبةُ في الموت تؤدي إلى القتل، أي أن فرويد لم يتخلَّ عن نظرته الحيوانيّة للإنسان (الإنسان حيوانٌ يرتجف من الموت)، أما رانك وبراون، فيعتقدان أن ما يعاني منه الإنسان هو كبت الموت، فيصبح الموت هنا (مشكلةً). وهذا الرأي قريبٌ إلى رأي تلميذ فرويد (وعدوه فيما بعد)، يونغ.
(4)
يطرح المؤلف سؤلًا: ما هو الوهم الأفضل الذي يجب أن نتّبعه لتجاوز مشكلة الإنسان؟
بالنسبة لكيركيغارد ورانك (ويونغ؟)، هو الدين. ليس الدين الطقوسي وإنّما الدين الذي يمثل الأمل، والتفاني من أجل الخلود الجماعي، خلود الإنسانية مقابل فناء الفرد، الذي تماهى معها. أما فرويد فلا شيءَ لديه قادرٌ على ذلك، سوى المواجهة. ولو أردتُ تجاوز الكتاب قليلًا، ففي الفلسفة الألمانية ما يشبه هذين الرأيين المتناقضين، فهيغل، يعتقد بإن الإنسان، دون اللجوء إلى المطلق سوف يعاني الاغتراب، أما تلميذه فيورباخ، فيقلب ديالكتيك أستاذه رأسًا على عقب، ويظن أن الاغتراب ينشأ من تنكّر الإنسان لطبيعته وضياعه في ذلك الأمل الذي سبق وأن خلقه الإنسان نفسه لصورة الإنسان الكامل وهو الله.
(5)
يحاول المؤلف أن يجمع التحليل النفسي والدين والفلسفة، ليجد جوابًا لمعضلة الإنسان الأزليّة: الموت. لكنّه، وكما أظن لم يستطع إعطاء جوابًا مريحًا، كما لم يستطع گلگامش في بداية التاريخ، ولا يبدو لي ذلك فشلًا، فلا إجابات خارج الوهم، ولكنّي أميل إلى الوهم الشخصي، أو نسخة شخصيّة من وهم ملائم، لا يتنكّر للحظة الراهنة ويتكلّم لغة الحضارة العالميّة القائمة.
كان إرنست بيكر يعاني من السرطان ، فكتب هذا الكتاب، فقد أنكر الموتَ بالكتابة.