...
Show More
إن قراءة سلمان رشدي في هذه الرواية لم تكن سهلة يجب على القارىء أن يمسك خيوطها منذ البداية فإن أفلتت منه سيكون من الصعوبة الإمساك بها من جديد ..شخصيا وصلت إلى أعلى قمة للمتعة تلك الحالة التي أشعر بها بالرضا الشديد بالإعجاب والإنذهال والتساؤل كيف يتأتى لكاتب أن يكتب بهذا الإحتراف أن يطلق بندقيته في وجه التاريخ دون وجل أن يخترع أفكارا وشخصيات خرافية لها صلة بشخصيات حقيقية كانت صانعة ومؤثرة.. تبدو لي أن الكتابة عنها ليست أيضا بهذه السهولة سأبدأ في اقتباس لفت نظري جدا لأنه يبدو لي لا يلخص السبب بل الهدف والدافع
يقول سليم سيناء في الجزء الأخير من الكتاب : ذات يوم قد يتذوق العالم
مخللات التاريخ وهي قد تكون لاذعة جدا لبعض الحلوق ، رائحتها قد تكون طاغية جدا ، قد تدفع بالدموع إلى العيون مع ذلك آمل أن يكون في الإمكان القول عنها إن فيها طعم الحقيقة الصادقة وإنها رغم كل شيء نابعة عن حب ..
هنا بدا لي كل شيء أكثر وضوحا تلاشى الضباب كلية فالمخللات لم تكن سوى هذه الرواية التي تحمل تلك الحقيقة اللاذعة في نظر رشدي للأوضاع السياسية التي عاشتها الهند بعد الإستعمار البريطاني ووليدتها باكستان ..حروب وصدامات وإنقسامات إلى بعض الحكام الفاسدين ..هذه الحقيقة التي صدح بها سلمان رشدي طوال الرواية في جو خرافي من الواقعية السحرية أعطت الكاتب الحق في أن يعلن حبه الكبير للهند من خلال شخصية سليم ووصفه الكاريكاتوري الساخروالناقد لشخصيات حقيقية كان له أدوراها التاريخية .. سليم المنقذ والمخلص كما لم يتأتى له أن يكون! ..
ولد بطل الرواية في نفس اليوم الذي أعلن فيه عن إستقلال الهند في منتصف الليل هو وخمسمائة طفل في نفس اللحظة ولأنها لحظة غير عادية فأولاد تلك اللحظة لم يكونوا اعتياديون لقد وهبتهم تلك اللحظة خوارق ..يمضي رشدي بطريقته الحكواتية الرائعة وخياله الممتد ليحكي قصصا عن تلك الخوارق الهبة أو اللعنة أيا كانت ! والتي حصل عليها أطفال منتصف الليل ، ما يهمنا هو إن هؤلاء الأطفال المنتشرين في أنحاء الهند يجتمعون في عقل هذا الطفل ليحاولوا حل مشكلات الهند سياسية إجتماعية فكرية إلخ .. كما لو إن كل طفل منهم يمثل شريحة أو مذهب أو فكر أودين بكل أطياف الهند التعددية أما هذا العقل المسرح أو الملعب الذي سمح بالتخاطر متجاوزا كل حدود اللغات العديدة فلم يكن سوى عقل سليم سيناء ..
كتبت الرواية على لسان سليم سيناء نفسه.. وفي خطاب موجه لبادما والتي لم تكن ذا أهمية تذكر سوى أن تكون إذنا كما كان سليم صوتا وأنفاهي حلقة الوصل بين القارىء وبين السارد .. سليم ذا الأنف الذي لا يكف عن السيلان والذي شوه وجهه لكنه هو مصدر القوة والعظمة في إشارة لما ممكن أن تقدمه حاسة الشم العظيمة الحاسة التي لا نعرف قيمتها إلا إذا أصبنا بزكام سد أنوفنا وأصبح روائح الأشخاص والأشياء كلها تتشابه ليست بذات قيمة وهنا بلاشك لا يمكن ألا استحضر رواية العطر لزوسكيند والتي كانت حاسة الشم هي ركيزة من ركائز النص فالبطل دون رائحة ويعمل في صنعة العطور تلك المفارقة قادته لصنع عطر خاص به من خلال جرائم القتل ، بينما بطلنا سليم هنا قادر على شمّ الرغبات الغير معلنة الحقد والإنتقام والكراهية رائحة الشر والحب هذه الروائح كاشفة النوايا محطمة للعلاقات الإنسانية وليصل الخيال بالكاتب إلى أبعد ما يمكن أن يتصوره عقل القارىء ..كل ذلك من خلال سرد ذاتي بالغ النرجسية يتضخم على مدار صفحات الرواية فقصته لا تقل أهمية عن أي كتاب مقدس كما يقول لذلك فهو لا يكف عن المقارنة بين حين آخر..أن سليم لم يكن سوى هو صوت الهند تحكي تاريخها بطريقة غير تقليدية متحررة من كل شيء وبعيدة تماما عما هو سائد ومدون..
الهند هي سليم وليست الأرملة أنديرا كما كان يكرر سليم بسخرية وشيفا ( إله الشر عند الهندوس) شيفا الذي تم استبداله واستبعاده عن جنة العائلة ليس سوى ذلك الجزء الفاسد .. الذي دمر وسحق أطفال منتصف الليل وداست أفعاله الشريرة أمومية الهند الكبرى لأطفالها كما إن كل شخصية من شخصيات الرواية تمثل شريحة أوفئة ولدت أو عاشت في ا��هند وإن ظهرت بصورة مبالغ بها كالرسم الكاريكاتوري الذي يركز على جزء ما من أعضاء الجسد فيضخمه بينما تبقى الأعضاء الأخرى وكأنها في حالة ضمور !
هناك فصول في الرواية بلغت قمة البراعة وصل فيها رشدي القمة في إبداعه كفصل القتال على الحدود بين الهند باكستان حين تجسد الخوف على شكل أشباح وما تبعه من ضياع الجنود الأربعة في الغابة السحرية و تلك الفصول التي تلاعب فيها سلمان رشدي بالمتناقضات والرموز ألم يكن سليم هو الأنف وشيفا هو الركب ، فلسفة السلّم والثعبان ، فصل ولادة آدم سيناء في عرض مهيب للكلمات والحدث تتخلله حرب أنديرا للبقاء في السلطة ، إنتخابات وولادة ... خروج آدم للحياة وخروج آنديرامن السلطة .. ميثولد الذي يمثل بقايا إستعمار بشروطه المغالية و القاسية ! ماري رغم خطيئتها الوجه الحاني الباقي والوحيد .. المبصقة الذكريات والزمن الذي ضاع .. أحياء السحرة في دلهي وسبر أغوارها ناهيك عن استخدامه للسحر للشعر للأغاني للميثولوجيا القديمة وتوظيفها في البعد الأسطوري لهذه الحكاية ..
إن صوت رشدي في هذه الرواية صوتا ضد الإنقسام وما نتج عنه من عنف وحرب وتطرف فاق الحد
وإن نيله جائزة البوكر على هذه الرواية هو ما استحقته هذه الرواية الملحمية ..
لذلك خمسة نجوم وأنا مغمضة العينين :)