...
Show More
محكومٌ علينا بالجينات! ...فما نحن سوى شرائح رقمية!...أو إن شئت قل شفرات: فإما شقيٌ وإما سعيد ..فثمة خيطٌ لولبيّ فريدٌ من ال (دي إن إيه) يحرك الجميع كدُمى من خشب...ومنذ أجيالٍ انتخب العالم كل ما فينا بالقسوة ..فكان "البقاء للأقوى" وللأظلم وللأطغى ..وفي حربٍ ضروسٍ كهذه، لا نسل يبقى للمقتول ..وعليه فإن الحاضرين جميعهم هم أحفاد من قتل ..تلك فكرةٌ مريرة نعم! ...ولكن على اﻷقل بقي لي منها خبر سار ... فلقد صار عندي اﻵن جينٌ لكل ذنب ..للقهر و الضعف ..للمثلية والجنون ..وللعنف والحب ..هب الجميع بقبحهم وآثامهم وضعية الحتمية الكونية، وسيغدو الكل أجمل ...وكأنك واﻵخرين مجرد "بَكَرة" وصلٍ لهذا الخيط اﻷزليّ الممتد فيما بين النفختين ..نفخة الروح اﻷولى ونفخة الصور اﻷخيرة ...كانت تلك فكرةٌ جديرةٌ باتخاذ قرار قطعيّ بالمغفرة : سأحب كل الناس، لن أستثني منهم أحد ..كيف لا و الظالم بها ما هو إلا كسيحٌ آخر قد عرقل مُرغماً مسير العدل ...ثم يكرر (رايدلي) فجأةً بثلث الكتاب اﻷخير هذا القول: " واﻷفضل للقارئ أن يُعوّد نفسه على اللاقطعية، فكلما زدنا توغلاً في الجينوم ، سيبدو لنا أقل جبرية، وتصبح السمات المميزة في المنظومة لا قطعية رمادية، وسببيّة مُتغايرة كنزعاتٍ غامضة، فالجينوم معقد ولا حتميّ، تماماً مثل الحياة العادية ﻷنه نفسه حياةٌ عادية." ..فأجدني وبكل ما فيّ من عزمٍ واندفاع، أُزين لزوجي الإسراع بإجراءت انتقالنا لتلك البلدة النائية الغافية على الخريطة في سُبات: سنعيش هناك في عزلة بلا حد..نتنزه بين الهضاب و الجبال.. نزرع الريحان والورد.. ونشتري مسدس!
" وأنا أنحني فوق كمبيوتر محمول مُتحدثاً إلى (دايفيد هيج) عالم البيولوجيا التطورية، دُهشت قليلاً عندما سمعته يقول إن كروموسوم 19 هو كروموسومه المفضل. وفسّر ذلك بأن هذا الكروموسوم فيه كل أنواع الجينات "اللعوب"! ولم أكن فكرت قبلها قط في أن الكرموسومات لها شخصياتها. فهي على كلِ مجرد مجموعات اعتباطية من الجينات. ولكن ملاحظة هيج العارضة زرعت في رأسي فكرة لم أستطع التخلص منها. لماذا لا نحاول أن نروي ما تكشّف من قصة الجينوم البشري في كل كرموسوم بعد الآخر، بأن نلتقط من كل كروموسوم جيناً يتلائم مع القصة كما نرويها؟ لقد فعل (بريمو ليفي) شيئاً مشابهاً بالنسبة للجدول الدوري للعناصر، وبدأت أفكر في الجينوم البشري بما يحق له كنوعٍ من السيرة الذاتية ، كتسجيل مكتوب بنزعة جينية." ..هكذا قال (مات رايدلي)، وهذا بالتحديد ما فعل.
مجدولةٌ بالمجاز لغة (رايدلي ) بلا إفراطٍ في الخيال الأدبي أو تفريط بالواقع العلمي..وكثيرا ما كنت أقف الهُنيهة إجلالاً أمام شروحاته المفعمة بالبساطة والابتكار ، لميكانيزمات الوراثة الموغلة في التعقيد والضجر ..بيد أني لا أرى كتابه مناسباً لغير المتخصصين خلافاً لما رأى، لذا سأحصر اقتباساتي منه- ما استطعت- لتكون أب��د عن الرطانة العلمية أكثر مما حصر..يقول (مات رايدلي) واصفاً الجينوم البشري :
" دعنا نتخيل أن الجينوم كتاب، هناك 23 فصلا تسمى الكروموسومات. وكل فصل يحوي ألافا عديدة من القصص، تسمى الجينات. وكل قصة قد صنعت من فقرات تسمى إكسونات تقطعها إعلانات تسمى إنترونات، وكل فقرة قد صنعت من كلمات تسمى كودونات ، وكل كلمة كتبت بحروف تسمى قواعد. ويوجد في الكتاب بليون كلمة، بما يجعله أطول ب5000 جزء من حجم هذا الكتاب، أو بطول 800 إنجيل. ولو أنني تلوت الجينوم على القارئ بمعدل كلمة واحدة في الثانية لمدة 8 ساعات يوميا، سيستغرق ذلك مني قرنا بأكمله. ولو أنني دوّنت الجينوم البشري بمعد�� حرف واحد في كل ملليمتر، فإن النص الذي أكتبه سيكون في طول نهر الدانوب. فهذه وثيقة عملاقة ، كتاب هائل، وصفة طويلة طولاً مفرطاً، وكل هذا يتخذ موضعه داخل نواة ميكروسكوبية لخلية دقيقة الصغر، تتخذ مكانها بسهولة فوق رأس دبوس."
وكغالب علماء البيولوجيا الحيوية، يؤمن (رايدلي) بنظرية التطور ..فبالرغم من استناده العلمي على حقيقة :"أن هناك عملية خلقٍ واحدةٍ فقط، حدثٌ وحيدٌ عند ولادة الحياة " وهو ما عبّر عنه بكونه "حُجةٌ مفيدة للمتدينين" !..إلا أنه أخذ يسوق الدلائل الجينية بالثلث الأول من الكتاب ، لتدعم اعتناقه لعقيدة التطور فيما يختص بسردية الانفجار الكبير وميلاد الكون ونشأة المخلوقات وأسلاف البشر ..ما يعنيني في ذلك هو كراهتي لقدرة بعض قارئيه على بخس كتابٍ كهذا لحقّه انتصاراً فقط لقناعات النفوس...ففي نهاية الأمر ، الحقيقة هي كنز الله لا يشاركه فيها أحد...وقد تُساق المعلومة نفسها فيرى البعض فيها بصمة يمين الله بكل شئ ولا يرى الباقون فيها الله في أي شئ ...يقول (مات رايدلي) بإحدى تلك الحقائق الجينية المذهلة بين الكائنات:
" ولعل ما يُثير الدهشة بالفعل، أن البشر ليس لديهم 24 زوجاً من الكروموسومات: فأفراد الشامبنزيّ لديهم 24 زوج من الكروموسومات، وكذلك الغوريلا والأورانج أوتان، فنحن استثناء بين القردة العليا. وأبرز فارق تحت الميكروسكوب أننا ينقصنا زوجٌ واحد ، والسبب ليس في أن ذلك الزوج مفقودٌ عندنا، وإنما السبب أن اثنين من كروموسومات القردة العليا قد اندمجا فينا ، والحقيقة أن كروموسوم 2 ثاني أكبر كروموسومات الإنسان قد تكوّن من اندماج كروموسومين متوسطيّ الحجم من كروموسومات القردة العليا...ولو اخترنا عشوائيا أي فقرة في جينوم الشمابنزي لنقارنها مع الفقرة المماثلة في الجينوم البشري، فسنجد أن حروفاً قليلة جدا تكون مختلفة، وهذا في المتوسط بمعدل أقل من 2%، فنحن كالشامبنزي بنسبة 98% ، وإذا كان هذا لا ينال من احترام القارئ لنفسه، فليعتبر أن أفراد الشامبنزي هم مثل الغوريلا بنسبة 97%، وبكلمات أخرى فنحن نماثل أفراد الشامبنزي أكثر مما تماثلهم الغوريلا."
ثم كانت هناك فصولا تحكي كيف أصبح علم الوراثة عوناً للظالم وسلاحاً للمستبد، كاختبار(معامل الذكاء) على سبيل المثال، والذي أقُصي به الكثير من المهاجرين إلى أميركا ، وخضع لوطأته ملايين المجندين بالجيش خلال الحرب العالمية الأولى ..يقول (رايدلي) عنه منتقداً:
" تاريخ معامل الذكاء ليس تاريخاً رفيع المستوى ولا يوجد في تاريخ العلم سوى قلة من الخلافات التي جرى التصرف فيها بغباءٍ مثل الخلاف حول الذكاء ، ويدخل الكثيرون منّا في الموضوع ، وأنا منهم وقد تملّكهم تحيزٌ كله ارتياب ، وأنا لا أعرف ما يكون عليه معامل ذكائي، فقد أجروا لي اختبارا في المدرسة ولم يخبروني قط بالنتيجة ، وكنت لا أدرك أن الاختبار يجري إزاء زمنٍ معين ليس فيه بوجهٍ خاص ما يطرح في حد ذاته أي ذكاء ، وجعلتني هذه الخبرة لا أحترم فجاجة أن نقيس ذكاء الناس برقمٍ وحيد، فالقدرة على قياس شئ مراوغ هكذا في نصف ساعة أمر يبدو سخيفاً. والحقيقة أن القياسات الأولى للذكاء كان الدافع إليها مُتحيزا على نحو فجّ . فقد كان (فرنسيس جالتون) رائداً لدراسة التوائم بغرض أن يعزل المواهب الفطرية عن تلك المكتسبة، ولم يتردد (جالتون) في ذكر السبب لقيامه بذلك : " إن هدفي العام هو أن ألاحظ بعناية شتى الملكات الموروثة لمختلف الرجال، وأن ألاحظ الفروق الكبيرة في العائلات الكبيرة والأعراق المختلفة، وأن أتعلم إلى أي مدى قد يُظهر التاريخ الإمكان العملي لأن تَحل السلالات البشرية الأفضل مكان السلالات غير الكفئة، وبالتالي نكرّس الجهد للوصول إلى غايات التطور بسرعة أكبر ومشقة أقل مما لو تركنا الأحداث تجري مجراها الخاص." وبكلمات أخرى كان جالتون يريد أن يغربل الأفراد لانتخابهم وإنسالهم كما لو كانوا ماشية."
ورغم "أن أشهر رائد لاختبارات الذكاء وهو الفرنسي (ألفريد بينيه) ، كان يُحاج بحماس بأن الهدف من الاختبار ليس أن نكافئ الأطفال الموهوبين ، وإنما أن نبذل عناية خاصة بالأطفال الأقل موهبة." إلا أن (رايدلي) سرد العديد من مساوئ هذا الامتحان سواء بصوره القديمة أو الحديثة كتلك الدارجة حالياً ..يقول مثلاً:
" لقد تجاهلوا التأثيرات البيئية على القدرات تجاهلاً كاملا حتى أنهم كانوا يختبرون من لا يتكلمون الإنجليزية باختبارات إنجليزية ويختبرون أفرادا أمُيين باختبارات تتطلب منهم معالجة استخدام القلم لأول مرة. كان إيمانهم بالوراثة مُبالغاً في التمني وأدى عموما إلى أن يفترض ناقدوهم بعدها أنهم لم يكن لديهم مطلقا أي قضية."
ومقاطع كهذه كانت ترفع (مات رايدلي) بعيني ليكون عالماً بدرجة "حقوقيّ " ...يقول مثلا متحدثاً عن مخاوفه إزاء هذه الاختبارات الوراثية المتحيزة:
"ويوجد في الوقت نفسه خطرٌ من أن غول اختبارات التأمين الوراثية واختبارات التوظيف الوراثية سيثير فينا الرعب إلى حد أن يُبعدنا عن استخدام الاختبارات الوراثية لمصلحة الطب المفيد. على أن هناك غُولاً آخر يرعبني رعباً أكثر: وهو الخوف من أن تتحكم الدولة بما يُسمح لي فعله بجيناتي، وأنا حريصٌ على ألا تشاركني الشركة التي تؤمّن عليّ في شفرتي الوراثية، وحريصٌ كذلك على أنه ينبغي أن يعرفها طبيبي وأن يستخدمها، ولكنني أصُرّ إصراراً يصل إلى التعصب على أن يكون هذا قراري أنا. فجينومي ملكي أنا وليس ملك الدولة. وليس للدولة أن تقرر ما إذا كان يمكن لي إجراء الاختبار. فهذا قراري أنا. وهناك نزعة أبوية رهيبة للتفكير في أننا يجب أن تكون لدينا سياسة واحدة في هذا الشأن، وأن الحكومة يجب أن تضع القواعد حول مقدار ما يجب أن يراه الفرد من شفرته الوراثية الخاصة به، ومن الذي يجب أن يظهر له الفرد ذلك. على أن هذا قرار يتخذه الفرد لنفسه ، وليس قرار الدولة ، وينبغي دائما أن نتذكر ذلك."
أو كهذا الجزء حيث يقول متحدثاً عن سياسة البحث العلمي : " من المفروض أن العلم يتقدم بإقامة الفروض واختبارها التماساً لتكذيبها، ولكنه لا يفعل ذلك. وبالتالي كان أتباع الحتمية الوراثية في العشرينات من القرن العشرين يبحثون دائماً عما يُؤكد أفكارهم ولا يبحثون أبداً عن أي تكذيب لها، وبمثل ذلك تماماً كان أتباع الحتمية البيئية في الستينات يبحثون دائما عن براهين داعمة ويحوّلون أبصارهم بعيداً عن البراهين المضادة ، وعلى نحوٍ فيه مفارقة ، فإن هذا جانبٌ من العلم حيث يكون "الخبير" عادةً أكثر خطأً من الهاوي. فقد عرف الأفراد العاديون دائماً أن التعليم مهم ، ولكنهم بما يساوي ذلك آمنوا دائماً ببعض قدرة فطرية. أما الخبراء فهم اللذين اتخذوا الأطراف القصوى والمواقف السخيفة عند طرفٍ واحدٍ من طرفيّ الطيف."
وأذكر الآن إحصائية عالمية تم فيها رصد "مرض القلب" كسبب أول للوفيات المبكرة بمصر ...وأعتقد أني وجدت الآن تفسيراً مُقنعا لذلك ...يقول (مات رايدلي): " ومن أحسن التبصرات في الطريقة التي يغيّر بها السلوك من التعبير عن الجينات ما توصلنا إليه من دراسات القرود. فنجد مثلا في قرود حدائق الحيوان، أن الأفراد الذين تكتسي شرايينهم بطبقة فوق جدرانها يكونون في القاع من الترتيب الاجتماعي. وحيث أنه يتهددهم عنف زملائهم الأرقى مرتبة ، فإنهم متوترون باستمرار، فيرتفع الكورتيزول (هرمون التوتر) في دمائهم، وينخفض السيروتونين (هرمون الرضا) في أمخاخهم، وتبقى أجهزتهم المناعية مكبوتة دائما ويزداد تكون الألياف على جدران شراينهم التاجية."
ثم يضيف بمقطع آخر : "يشبه البشر القرود كثيرا. حدث اكتشاف أن القردة ذوي المكانة الاجتماعية المنخفضة يُصابون بأمراض القلب، في وقتٍ أعقب سريعاً الكشف الأكثر إذهالاً الذي يُفيد بأن الموظفين المدنيين العاملين في الحكومة البريطانية يُصابون بأمراض القلب بنسبة تتوافق مع قدر انخفاض مرتبتهم البيروقراطية، فقد أجُريت دراسة ضخمة لمدى طويل على 17 ألف موظف مدني وانبثق عنها استنتاج لايُصدق: وهو أن مرتبة وظيفة الفرد تتيح التنبؤ بدرجة تعرضه لنوبة قلبٍ أكثر مما تتنبأ به السمنة أو التدخين أو ارتفاع ضغط الدم، وإذا كان أحد الأفراد يشغل وظيفة من درجة منخفضة كالساعي مثلا، فسيكون عُرضة إصابته بنوبة قلبٍ باحتمال يبلغ أربعة أضعاف احتمال إصابة من يشغل وظيفة سكرتير دائم في قمة الهرم. بل حتى لو كان هذا السكرتير الدائم في الحقيقة سميناً ومرتفع الضغط ومدخناً، فإنه مازال أقل عرضة للإصابة من نوبة قلب في سنٍ معينة عن الساعي النحيل غير المدخن وذي ضغط الدم المنخفض. وظهرت النتيجة نفسها بالضبط من دراسةٍ مماثلة أجريت على مليون موظف في شركة (بل) للتليفونات في ستينيات القرن العشرين. فقلب الواحد منّا يقبع تحت رحمة مرتبة أجره . ما هذا الذي يحدث بحق السماء؟ حقيقة أن مرض القلب عَرضٌ لنقص التحكم تُفسر لنا الشئ الكثير عن ظهوره في حالات متفرقة . وهي تفسر السبب في أن أفراداً كثيرين من أصحاب الوظائف العالية الدرجة سرعان ما تصيبهم نوباتٍ قلبية بعد أن يتقاعدوا وينتقلوا من إدارة المكاتب إلى مهام مُتدنية كغسل الأطباق وتمشية الكلاب في بيئةٍ منزلية تُديرها زوجاتهم. بل إن هذا قد يُفسر حتى السبب في أن المباني الحديثة التي لا يمكن فتح نوافذها تُمرض الناس إلى حد أكبر من المباني الأقدم ، حيث يكون للناس تحكم أكثر في بيئتهم. سألجأ إلى أن أُكرر كلامي من باب التأكيد: فالسلوك أبعد من أن يكون تحت رحمة بيولوجيتنا، في حين أنه كثيرا ما تكون بيولوجيتنا تحت رحمة سلوكنا. "
لم تكن هذه المرة الأولى التي أتعرف فيها إلى هذه المعلومة، غير أنها كانت المرة الأولى التي تستدعي في بالي احتمال أثرها البشري كذلك، لي ولزوجي العديد من أصدقاء الصبا المشتركين ، وأذكر جيدا كيف اعترتنا دهشة غامرة حين إدعى أحد أصدقاءنا غيرةً مفتعلة على خطيبته من أحد زملائها المحترمين ليرضيها، فسّر لنا ذلك فيما بعد بكونها طريقته المعتادة هو و العديد ممن يعرف لدرء اتهامات انتقاص حبه لها هذا إن لم يتطور الأمر عندها للطعن في نخوته...لن أستغرب الآن إن تطورت شكوى مثيلاتها من تصرفات أكثر ذكورية وأعتى فجاجة مع مرور الوقت...فلقد كانت تلك بذرتها في بادئ اﻷمر ...تعمد الكثيرات من النساء للأسف بوعي أو بدون إلى تكاثر وتطوير أجيال متتابعة من الرجال ذوي اللزوجة من فرط ��دعاءات العاطفة وذوي الخنوثة حينما تتطلب المسؤولية... وكشأن باقي الكائنات ، يبدو أن الرجال هم خبز نسائهم ، بأيديهن طحنوا قمحه ودقيقه ، فليأكلوه إذن هنيئاً مريئاً..يقول (رايدلي):
"طرح داروين في كتابه الثاني عن التطور "تحدر سلالة الإنسان" فكرة أنه كما أن مربي الحمام يستطيع تربية الحمام ، فإن الأنثى هي من تُربي الذكور، فإناث الحيوانات تختار على نحوٍ ثابت نوع الذكور التي تتجامع معها عبر أجيال كثيرة، وبهذا فإن الإناث تستطيع تغيير شكل أو لون أوحجم أو طريقة شدو ذكور نوعها. والحقيقة أن هذا بالظبط ما يقع في حالة طيور الطاووس، ولم يحدث إلا بعد مرور قرن بعد طرح داروين هذا، أن أُجريت سلسلة من دراسات نظرية وتجريبية برهنت على أن داروين كان مصيبا، وأن ذيول وريش وقرون وأناشيد وحجم الحيوانات الذكور ، كلها صفات تتربى فيهم بالنزعات الثابتة للاختيار الأنثوي النشط أو السلبي جيلا بعد جيل. "
كانت أمتع الفصول هو الفصل الذي اختص بالكروموسوم 21 الشهير والخاص تحديدا ب(متلازمة داون) ، وما تلا ذلك من ظهور نزعة (النقاء الوراثي) البغيضة والتي حمل لوائها العالم (فرانسيس جالتون) ، حيث عرّف (رايدلي) أساسياتها كما طرحها (جالتون) بالتالي:
"يجب أن يكون للدولة كلمتها بشأن من الذي ينبغي أن يتوالد، ومن الذي ينبغي ألا يفعل. هكذا لم يكن علم تحسين النسل مُسيّسا ، بل كان عقيدةً سياسية جُعلت علمية، وبحلول عام 1900 كان علم تحسين النسل قد استحوذ على الخيال الشعبي ، على أنه سرعان ما انحرفت بؤرة التركيز عن مجرد تشجيع "تحسين النسل" باستيلاد الأفضل لتتحول إلى إيقاف "سوء النسل" نتيجة استيلاد الأسوأ. وسرعان ما أصبح الأسوأ يعني أساسا "ضعاف العقول" ويشمل ذلك مدمني الكحول، ومرضى الصرع والمجرمين وكذلك أيضا المتأخرين عقليا. "
وكانت تلك إحدى فظائع تطبيقاتها ..يقول (رايدلي) حاكياً: " في أول الأمر كانت المحكمة العليا ترفض الكثير من قوانين التعقيم ، ولكنها غيّرت اتجاهها في عام 1927 ، وحكمت المحكمة بولاية فيرجينيا بتعقيم (كاري بوك) ، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها ، وأوُدعت مستعمرة لمرضى الصرع وضِعاف العقول حيث كانت تعيش مع أمها وابنتها فيفيان. وبعد إجراء فحصٍ سطحيّ، أعُلن أن فيفيان ابنتها التي كان عمرها 7 أشهر فقط "معتوهة" . فصدر أمر بتعقيم (كاري) ومنعها من الإنجاب للأبد. وكما أثبت القاضي (أوليفر هولمز) في حُكمه المشهور: "إن ثلاثة أجيال من المعتوهين فيها الكفاية" . ثم ماتت الطفلة فيفيان في سنٍ صغيرة ، أما (كاري) فظلت تعيش حتى سن الشيخوخة ، وهي امرأة محترمة ، متوسطة الذكاء، تحل ألغاز الكلمات المتقاطعة في أوقات فراغها. وكانت أختها قد أجُريت لها أيضا عملية تعقيم، وحاولت طوال سنين كثيرة أن تُنجب أطفالا إلى أن تبينت ما صُنع بها من غير موافقتها. استمرت ولاية فيرجينيا على تعقيم "المعوقين ذهنيا" حتى سبيعينيات القرن العشرين، وهكذا فإن أمريكا معقل الحرية الفردية قد عقمت ما يزيد على 100 ألف فرد بسبب ضعفهم عقليا، وذلك حسب ما يزيد على 30 قانونا ما بين قوانين ولايات وقوانين فدرالية صدرت في الفترة بين عامي 1910 و1935. على أنه إذا كانت أمريكا هي الرائدة ، فقد تبعتها بلادٌ أخرى . فعقمت السويد 60 ألفاً من الأفراد. ووضعت بلاد أخرى قوانين رسمية للتعقيم الإجباري ونفّذتها، مثل كندا والنرويج وفنلندا وإستونيا وأيسلندا. أما ألمانيا الأسوء سمعة فقد عقمت 400 ألف ، ثم قتلت الكثيرين منهم، وفي خلال 18 شهراً فقط في الحرب العالمية الثانية أُعدم بالغاز 70 ألف فرد من المرضى النفسيين الألمان المُعقمين من قبل ، وذلك لإخلاء أسرة المستشفيات للجنود والجرحى. "
وكان مهماً جداً عند (رايدلي) أن يوضح الفرق بين (تحسين النسل) سئ السمعة وبين نظيره (الفرز الوراثي) المعتمد على التوعية كعقيدة لحصر الأمراض الوراثية فيما بين الشعوب..يقول رايدلي: " وعلى الرغم من أنه لم تزل هناك قلة من العلماء الهامشيين المنشغلين بالانحطاط الوراثيّ للأعراق والسكان، إلا أن معظم العلماء يُدركون الآن أن مصلحة الأفراد ينبغي أن تكون لها الأولوية على مصلحة الجماعات. وهناك فارقٌ شاسع بين الفرز الوراثي وما كان أنصار تحسين النسل يريدونه أيام مجدهم ، وهو يقع في التالي: إن الفرز الوراثي يدور حول إعطاء أفراد خاصين اختيارات خاصة . أما تحسين النسل فكان يدور حول تأميم هذا القرار لجعل الناس يتوالدون من أجل الدولة وليس من أجل أنفسهم. وهذا تمييز كثيراً ما نغفل رؤيته في اندفاعنا لتعيين ما يجب علينا "نحن" أن نسمح به في عالم الوراثة الجديد . من نكون نحن؟ نحن كأفراد، أو نحن بمعنى المصلحة الجماعية للدولة أو العرق؟ ..فكما ناقشت الأمر في الفصل عن كروموسوم 13 ، نجد أن هناك في الولايات المتحدة لجنة للوقايةِ من الأمراض الوراثية اليهودية تُجري إختبارات على دم أطفال المدارس ، وتعطي المشورة ضد الزواج لاحقاً عنما يكون كِلا الطرفين حاملاً لنسخة من جينٍ معين يُسبب المرض نفسه. وهذه سياسة اختيار إرادي بالكامل، وعلى الرغم من أن ذلك يُنتقد على أن فيه تحسيناً للنسل، إلا أنه لا يتضمن أي إجبارٍ بالمرة، تُقدم الكثير من السجلات التاريخية لتحسين النسل هذا العلم كمَثلٍ لمخاطر العلم وخاصة الوراثيات من غير سيطرة ، إلا أن فيه مثلاً أكبر أكثر لخطر أن تترك الحكومات من غير سيطرة."
كنت أعلم أني حين أحكي ﻷمي عن جين مرض (الفصام العقلي) الذي أصاب خالي فدمّر حياته وأفقده وظيفته المرموقة وزوجته المُحبة ..أوعن وراثية مرض (الاكتئاب المزمن) الذي أصاب خالتي فيتّم أولادها وهي على قيد الحياة ..أن لن يعنيها كثيراً إحتمالية أن يرث أحدنا نفس الداء ..بقدر ما سيرفع عن كاهل قلبها أحمال قديمة و أنواء ...تقول اﻵن بارتياح :"يعني صحيح جدك كان شديد وقاسي حبتين ..بس كتر خيره والله عمل اللي عليه وزيادة"....لم تكن تلك فائدتي الوحيدة من الكتاب ..فلقد صارت أمي تغمغم الآن عند الخلاف بدلاً من الصياح :"جينات مهببة!" فيضحك أبي ..و تسألني خلسةً بعد نومه عن دواءه في اهتمام ، فتغمرني السعادة ...أما بالنسبة ل "لا قطعية رايدلي" فسُحقاً لها ..وقطعاً لن أخبر بها أمي.
" وأنا أنحني فوق كمبيوتر محمول مُتحدثاً إلى (دايفيد هيج) عالم البيولوجيا التطورية، دُهشت قليلاً عندما سمعته يقول إن كروموسوم 19 هو كروموسومه المفضل. وفسّر ذلك بأن هذا الكروموسوم فيه كل أنواع الجينات "اللعوب"! ولم أكن فكرت قبلها قط في أن الكرموسومات لها شخصياتها. فهي على كلِ مجرد مجموعات اعتباطية من الجينات. ولكن ملاحظة هيج العارضة زرعت في رأسي فكرة لم أستطع التخلص منها. لماذا لا نحاول أن نروي ما تكشّف من قصة الجينوم البشري في كل كرموسوم بعد الآخر، بأن نلتقط من كل كروموسوم جيناً يتلائم مع القصة كما نرويها؟ لقد فعل (بريمو ليفي) شيئاً مشابهاً بالنسبة للجدول الدوري للعناصر، وبدأت أفكر في الجينوم البشري بما يحق له كنوعٍ من السيرة الذاتية ، كتسجيل مكتوب بنزعة جينية." ..هكذا قال (مات رايدلي)، وهذا بالتحديد ما فعل.
مجدولةٌ بالمجاز لغة (رايدلي ) بلا إفراطٍ في الخيال الأدبي أو تفريط بالواقع العلمي..وكثيرا ما كنت أقف الهُنيهة إجلالاً أمام شروحاته المفعمة بالبساطة والابتكار ، لميكانيزمات الوراثة الموغلة في التعقيد والضجر ..بيد أني لا أرى كتابه مناسباً لغير المتخصصين خلافاً لما رأى، لذا سأحصر اقتباساتي منه- ما استطعت- لتكون أب��د عن الرطانة العلمية أكثر مما حصر..يقول (مات رايدلي) واصفاً الجينوم البشري :
" دعنا نتخيل أن الجينوم كتاب، هناك 23 فصلا تسمى الكروموسومات. وكل فصل يحوي ألافا عديدة من القصص، تسمى الجينات. وكل قصة قد صنعت من فقرات تسمى إكسونات تقطعها إعلانات تسمى إنترونات، وكل فقرة قد صنعت من كلمات تسمى كودونات ، وكل كلمة كتبت بحروف تسمى قواعد. ويوجد في الكتاب بليون كلمة، بما يجعله أطول ب5000 جزء من حجم هذا الكتاب، أو بطول 800 إنجيل. ولو أنني تلوت الجينوم على القارئ بمعدل كلمة واحدة في الثانية لمدة 8 ساعات يوميا، سيستغرق ذلك مني قرنا بأكمله. ولو أنني دوّنت الجينوم البشري بمعد�� حرف واحد في كل ملليمتر، فإن النص الذي أكتبه سيكون في طول نهر الدانوب. فهذه وثيقة عملاقة ، كتاب هائل، وصفة طويلة طولاً مفرطاً، وكل هذا يتخذ موضعه داخل نواة ميكروسكوبية لخلية دقيقة الصغر، تتخذ مكانها بسهولة فوق رأس دبوس."
وكغالب علماء البيولوجيا الحيوية، يؤمن (رايدلي) بنظرية التطور ..فبالرغم من استناده العلمي على حقيقة :"أن هناك عملية خلقٍ واحدةٍ فقط، حدثٌ وحيدٌ عند ولادة الحياة " وهو ما عبّر عنه بكونه "حُجةٌ مفيدة للمتدينين" !..إلا أنه أخذ يسوق الدلائل الجينية بالثلث الأول من الكتاب ، لتدعم اعتناقه لعقيدة التطور فيما يختص بسردية الانفجار الكبير وميلاد الكون ونشأة المخلوقات وأسلاف البشر ..ما يعنيني في ذلك هو كراهتي لقدرة بعض قارئيه على بخس كتابٍ كهذا لحقّه انتصاراً فقط لقناعات النفوس...ففي نهاية الأمر ، الحقيقة هي كنز الله لا يشاركه فيها أحد...وقد تُساق المعلومة نفسها فيرى البعض فيها بصمة يمين الله بكل شئ ولا يرى الباقون فيها الله في أي شئ ...يقول (مات رايدلي) بإحدى تلك الحقائق الجينية المذهلة بين الكائنات:
" ولعل ما يُثير الدهشة بالفعل، أن البشر ليس لديهم 24 زوجاً من الكروموسومات: فأفراد الشامبنزيّ لديهم 24 زوج من الكروموسومات، وكذلك الغوريلا والأورانج أوتان، فنحن استثناء بين القردة العليا. وأبرز فارق تحت الميكروسكوب أننا ينقصنا زوجٌ واحد ، والسبب ليس في أن ذلك الزوج مفقودٌ عندنا، وإنما السبب أن اثنين من كروموسومات القردة العليا قد اندمجا فينا ، والحقيقة أن كروموسوم 2 ثاني أكبر كروموسومات الإنسان قد تكوّن من اندماج كروموسومين متوسطيّ الحجم من كروموسومات القردة العليا...ولو اخترنا عشوائيا أي فقرة في جينوم الشمابنزي لنقارنها مع الفقرة المماثلة في الجينوم البشري، فسنجد أن حروفاً قليلة جدا تكون مختلفة، وهذا في المتوسط بمعدل أقل من 2%، فنحن كالشامبنزي بنسبة 98% ، وإذا كان هذا لا ينال من احترام القارئ لنفسه، فليعتبر أن أفراد الشامبنزي هم مثل الغوريلا بنسبة 97%، وبكلمات أخرى فنحن نماثل أفراد الشامبنزي أكثر مما تماثلهم الغوريلا."
ثم كانت هناك فصولا تحكي كيف أصبح علم الوراثة عوناً للظالم وسلاحاً للمستبد، كاختبار(معامل الذكاء) على سبيل المثال، والذي أقُصي به الكثير من المهاجرين إلى أميركا ، وخضع لوطأته ملايين المجندين بالجيش خلال الحرب العالمية الأولى ..يقول (رايدلي) عنه منتقداً:
" تاريخ معامل الذكاء ليس تاريخاً رفيع المستوى ولا يوجد في تاريخ العلم سوى قلة من الخلافات التي جرى التصرف فيها بغباءٍ مثل الخلاف حول الذكاء ، ويدخل الكثيرون منّا في الموضوع ، وأنا منهم وقد تملّكهم تحيزٌ كله ارتياب ، وأنا لا أعرف ما يكون عليه معامل ذكائي، فقد أجروا لي اختبارا في المدرسة ولم يخبروني قط بالنتيجة ، وكنت لا أدرك أن الاختبار يجري إزاء زمنٍ معين ليس فيه بوجهٍ خاص ما يطرح في حد ذاته أي ذكاء ، وجعلتني هذه الخبرة لا أحترم فجاجة أن نقيس ذكاء الناس برقمٍ وحيد، فالقدرة على قياس شئ مراوغ هكذا في نصف ساعة أمر يبدو سخيفاً. والحقيقة أن القياسات الأولى للذكاء كان الدافع إليها مُتحيزا على نحو فجّ . فقد كان (فرنسيس جالتون) رائداً لدراسة التوائم بغرض أن يعزل المواهب الفطرية عن تلك المكتسبة، ولم يتردد (جالتون) في ذكر السبب لقيامه بذلك : " إن هدفي العام هو أن ألاحظ بعناية شتى الملكات الموروثة لمختلف الرجال، وأن ألاحظ الفروق الكبيرة في العائلات الكبيرة والأعراق المختلفة، وأن أتعلم إلى أي مدى قد يُظهر التاريخ الإمكان العملي لأن تَحل السلالات البشرية الأفضل مكان السلالات غير الكفئة، وبالتالي نكرّس الجهد للوصول إلى غايات التطور بسرعة أكبر ومشقة أقل مما لو تركنا الأحداث تجري مجراها الخاص." وبكلمات أخرى كان جالتون يريد أن يغربل الأفراد لانتخابهم وإنسالهم كما لو كانوا ماشية."
ورغم "أن أشهر رائد لاختبارات الذكاء وهو الفرنسي (ألفريد بينيه) ، كان يُحاج بحماس بأن الهدف من الاختبار ليس أن نكافئ الأطفال الموهوبين ، وإنما أن نبذل عناية خاصة بالأطفال الأقل موهبة." إلا أن (رايدلي) سرد العديد من مساوئ هذا الامتحان سواء بصوره القديمة أو الحديثة كتلك الدارجة حالياً ..يقول مثلاً:
" لقد تجاهلوا التأثيرات البيئية على القدرات تجاهلاً كاملا حتى أنهم كانوا يختبرون من لا يتكلمون الإنجليزية باختبارات إنجليزية ويختبرون أفرادا أمُيين باختبارات تتطلب منهم معالجة استخدام القلم لأول مرة. كان إيمانهم بالوراثة مُبالغاً في التمني وأدى عموما إلى أن يفترض ناقدوهم بعدها أنهم لم يكن لديهم مطلقا أي قضية."
ومقاطع كهذه كانت ترفع (مات رايدلي) بعيني ليكون عالماً بدرجة "حقوقيّ " ...يقول مثلا متحدثاً عن مخاوفه إزاء هذه الاختبارات الوراثية المتحيزة:
"ويوجد في الوقت نفسه خطرٌ من أن غول اختبارات التأمين الوراثية واختبارات التوظيف الوراثية سيثير فينا الرعب إلى حد أن يُبعدنا عن استخدام الاختبارات الوراثية لمصلحة الطب المفيد. على أن هناك غُولاً آخر يرعبني رعباً أكثر: وهو الخوف من أن تتحكم الدولة بما يُسمح لي فعله بجيناتي، وأنا حريصٌ على ألا تشاركني الشركة التي تؤمّن عليّ في شفرتي الوراثية، وحريصٌ كذلك على أنه ينبغي أن يعرفها طبيبي وأن يستخدمها، ولكنني أصُرّ إصراراً يصل إلى التعصب على أن يكون هذا قراري أنا. فجينومي ملكي أنا وليس ملك الدولة. وليس للدولة أن تقرر ما إذا كان يمكن لي إجراء الاختبار. فهذا قراري أنا. وهناك نزعة أبوية رهيبة للتفكير في أننا يجب أن تكون لدينا سياسة واحدة في هذا الشأن، وأن الحكومة يجب أن تضع القواعد حول مقدار ما يجب أن يراه الفرد من شفرته الوراثية الخاصة به، ومن الذي يجب أن يظهر له الفرد ذلك. على أن هذا قرار يتخذه الفرد لنفسه ، وليس قرار الدولة ، وينبغي دائما أن نتذكر ذلك."
أو كهذا الجزء حيث يقول متحدثاً عن سياسة البحث العلمي : " من المفروض أن العلم يتقدم بإقامة الفروض واختبارها التماساً لتكذيبها، ولكنه لا يفعل ذلك. وبالتالي كان أتباع الحتمية الوراثية في العشرينات من القرن العشرين يبحثون دائماً عما يُؤكد أفكارهم ولا يبحثون أبداً عن أي تكذيب لها، وبمثل ذلك تماماً كان أتباع الحتمية البيئية في الستينات يبحثون دائما عن براهين داعمة ويحوّلون أبصارهم بعيداً عن البراهين المضادة ، وعلى نحوٍ فيه مفارقة ، فإن هذا جانبٌ من العلم حيث يكون "الخبير" عادةً أكثر خطأً من الهاوي. فقد عرف الأفراد العاديون دائماً أن التعليم مهم ، ولكنهم بما يساوي ذلك آمنوا دائماً ببعض قدرة فطرية. أما الخبراء فهم اللذين اتخذوا الأطراف القصوى والمواقف السخيفة عند طرفٍ واحدٍ من طرفيّ الطيف."
وأذكر الآن إحصائية عالمية تم فيها رصد "مرض القلب" كسبب أول للوفيات المبكرة بمصر ...وأعتقد أني وجدت الآن تفسيراً مُقنعا لذلك ...يقول (مات رايدلي): " ومن أحسن التبصرات في الطريقة التي يغيّر بها السلوك من التعبير عن الجينات ما توصلنا إليه من دراسات القرود. فنجد مثلا في قرود حدائق الحيوان، أن الأفراد الذين تكتسي شرايينهم بطبقة فوق جدرانها يكونون في القاع من الترتيب الاجتماعي. وحيث أنه يتهددهم عنف زملائهم الأرقى مرتبة ، فإنهم متوترون باستمرار، فيرتفع الكورتيزول (هرمون التوتر) في دمائهم، وينخفض السيروتونين (هرمون الرضا) في أمخاخهم، وتبقى أجهزتهم المناعية مكبوتة دائما ويزداد تكون الألياف على جدران شراينهم التاجية."
ثم يضيف بمقطع آخر : "يشبه البشر القرود كثيرا. حدث اكتشاف أن القردة ذوي المكانة الاجتماعية المنخفضة يُصابون بأمراض القلب، في وقتٍ أعقب سريعاً الكشف الأكثر إذهالاً الذي يُفيد بأن الموظفين المدنيين العاملين في الحكومة البريطانية يُصابون بأمراض القلب بنسبة تتوافق مع قدر انخفاض مرتبتهم البيروقراطية، فقد أجُريت دراسة ضخمة لمدى طويل على 17 ألف موظف مدني وانبثق عنها استنتاج لايُصدق: وهو أن مرتبة وظيفة الفرد تتيح التنبؤ بدرجة تعرضه لنوبة قلبٍ أكثر مما تتنبأ به السمنة أو التدخين أو ارتفاع ضغط الدم، وإذا كان أحد الأفراد يشغل وظيفة من درجة منخفضة كالساعي مثلا، فسيكون عُرضة إصابته بنوبة قلبٍ باحتمال يبلغ أربعة أضعاف احتمال إصابة من يشغل وظيفة سكرتير دائم في قمة الهرم. بل حتى لو كان هذا السكرتير الدائم في الحقيقة سميناً ومرتفع الضغط ومدخناً، فإنه مازال أقل عرضة للإصابة من نوبة قلب في سنٍ معينة عن الساعي النحيل غير المدخن وذي ضغط الدم المنخفض. وظهرت النتيجة نفسها بالضبط من دراسةٍ مماثلة أجريت على مليون موظف في شركة (بل) للتليفونات في ستينيات القرن العشرين. فقلب الواحد منّا يقبع تحت رحمة مرتبة أجره . ما هذا الذي يحدث بحق السماء؟ حقيقة أن مرض القلب عَرضٌ لنقص التحكم تُفسر لنا الشئ الكثير عن ظهوره في حالات متفرقة . وهي تفسر السبب في أن أفراداً كثيرين من أصحاب الوظائف العالية الدرجة سرعان ما تصيبهم نوباتٍ قلبية بعد أن يتقاعدوا وينتقلوا من إدارة المكاتب إلى مهام مُتدنية كغسل الأطباق وتمشية الكلاب في بيئةٍ منزلية تُديرها زوجاتهم. بل إن هذا قد يُفسر حتى السبب في أن المباني الحديثة التي لا يمكن فتح نوافذها تُمرض الناس إلى حد أكبر من المباني الأقدم ، حيث يكون للناس تحكم أكثر في بيئتهم. سألجأ إلى أن أُكرر كلامي من باب التأكيد: فالسلوك أبعد من أن يكون تحت رحمة بيولوجيتنا، في حين أنه كثيرا ما تكون بيولوجيتنا تحت رحمة سلوكنا. "
لم تكن هذه المرة الأولى التي أتعرف فيها إلى هذه المعلومة، غير أنها كانت المرة الأولى التي تستدعي في بالي احتمال أثرها البشري كذلك، لي ولزوجي العديد من أصدقاء الصبا المشتركين ، وأذكر جيدا كيف اعترتنا دهشة غامرة حين إدعى أحد أصدقاءنا غيرةً مفتعلة على خطيبته من أحد زملائها المحترمين ليرضيها، فسّر لنا ذلك فيما بعد بكونها طريقته المعتادة هو و العديد ممن يعرف لدرء اتهامات انتقاص حبه لها هذا إن لم يتطور الأمر عندها للطعن في نخوته...لن أستغرب الآن إن تطورت شكوى مثيلاتها من تصرفات أكثر ذكورية وأعتى فجاجة مع مرور الوقت...فلقد كانت تلك بذرتها في بادئ اﻷمر ...تعمد الكثيرات من النساء للأسف بوعي أو بدون إلى تكاثر وتطوير أجيال متتابعة من الرجال ذوي اللزوجة من فرط ��دعاءات العاطفة وذوي الخنوثة حينما تتطلب المسؤولية... وكشأن باقي الكائنات ، يبدو أن الرجال هم خبز نسائهم ، بأيديهن طحنوا قمحه ودقيقه ، فليأكلوه إذن هنيئاً مريئاً..يقول (رايدلي):
"طرح داروين في كتابه الثاني عن التطور "تحدر سلالة الإنسان" فكرة أنه كما أن مربي الحمام يستطيع تربية الحمام ، فإن الأنثى هي من تُربي الذكور، فإناث الحيوانات تختار على نحوٍ ثابت نوع الذكور التي تتجامع معها عبر أجيال كثيرة، وبهذا فإن الإناث تستطيع تغيير شكل أو لون أوحجم أو طريقة شدو ذكور نوعها. والحقيقة أن هذا بالظبط ما يقع في حالة طيور الطاووس، ولم يحدث إلا بعد مرور قرن بعد طرح داروين هذا، أن أُجريت سلسلة من دراسات نظرية وتجريبية برهنت على أن داروين كان مصيبا، وأن ذيول وريش وقرون وأناشيد وحجم الحيوانات الذكور ، كلها صفات تتربى فيهم بالنزعات الثابتة للاختيار الأنثوي النشط أو السلبي جيلا بعد جيل. "
كانت أمتع الفصول هو الفصل الذي اختص بالكروموسوم 21 الشهير والخاص تحديدا ب(متلازمة داون) ، وما تلا ذلك من ظهور نزعة (النقاء الوراثي) البغيضة والتي حمل لوائها العالم (فرانسيس جالتون) ، حيث عرّف (رايدلي) أساسياتها كما طرحها (جالتون) بالتالي:
"يجب أن يكون للدولة كلمتها بشأن من الذي ينبغي أن يتوالد، ومن الذي ينبغي ألا يفعل. هكذا لم يكن علم تحسين النسل مُسيّسا ، بل كان عقيدةً سياسية جُعلت علمية، وبحلول عام 1900 كان علم تحسين النسل قد استحوذ على الخيال الشعبي ، على أنه سرعان ما انحرفت بؤرة التركيز عن مجرد تشجيع "تحسين النسل" باستيلاد الأفضل لتتحول إلى إيقاف "سوء النسل" نتيجة استيلاد الأسوأ. وسرعان ما أصبح الأسوأ يعني أساسا "ضعاف العقول" ويشمل ذلك مدمني الكحول، ومرضى الصرع والمجرمين وكذلك أيضا المتأخرين عقليا. "
وكانت تلك إحدى فظائع تطبيقاتها ..يقول (رايدلي) حاكياً: " في أول الأمر كانت المحكمة العليا ترفض الكثير من قوانين التعقيم ، ولكنها غيّرت اتجاهها في عام 1927 ، وحكمت المحكمة بولاية فيرجينيا بتعقيم (كاري بوك) ، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها ، وأوُدعت مستعمرة لمرضى الصرع وضِعاف العقول حيث كانت تعيش مع أمها وابنتها فيفيان. وبعد إجراء فحصٍ سطحيّ، أعُلن أن فيفيان ابنتها التي كان عمرها 7 أشهر فقط "معتوهة" . فصدر أمر بتعقيم (كاري) ومنعها من الإنجاب للأبد. وكما أثبت القاضي (أوليفر هولمز) في حُكمه المشهور: "إن ثلاثة أجيال من المعتوهين فيها الكفاية" . ثم ماتت الطفلة فيفيان في سنٍ صغيرة ، أما (كاري) فظلت تعيش حتى سن الشيخوخة ، وهي امرأة محترمة ، متوسطة الذكاء، تحل ألغاز الكلمات المتقاطعة في أوقات فراغها. وكانت أختها قد أجُريت لها أيضا عملية تعقيم، وحاولت طوال سنين كثيرة أن تُنجب أطفالا إلى أن تبينت ما صُنع بها من غير موافقتها. استمرت ولاية فيرجينيا على تعقيم "المعوقين ذهنيا" حتى سبيعينيات القرن العشرين، وهكذا فإن أمريكا معقل الحرية الفردية قد عقمت ما يزيد على 100 ألف فرد بسبب ضعفهم عقليا، وذلك حسب ما يزيد على 30 قانونا ما بين قوانين ولايات وقوانين فدرالية صدرت في الفترة بين عامي 1910 و1935. على أنه إذا كانت أمريكا هي الرائدة ، فقد تبعتها بلادٌ أخرى . فعقمت السويد 60 ألفاً من الأفراد. ووضعت بلاد أخرى قوانين رسمية للتعقيم الإجباري ونفّذتها، مثل كندا والنرويج وفنلندا وإستونيا وأيسلندا. أما ألمانيا الأسوء سمعة فقد عقمت 400 ألف ، ثم قتلت الكثيرين منهم، وفي خلال 18 شهراً فقط في الحرب العالمية الثانية أُعدم بالغاز 70 ألف فرد من المرضى النفسيين الألمان المُعقمين من قبل ، وذلك لإخلاء أسرة المستشفيات للجنود والجرحى. "
وكان مهماً جداً عند (رايدلي) أن يوضح الفرق بين (تحسين النسل) سئ السمعة وبين نظيره (الفرز الوراثي) المعتمد على التوعية كعقيدة لحصر الأمراض الوراثية فيما بين الشعوب..يقول رايدلي: " وعلى الرغم من أنه لم تزل هناك قلة من العلماء الهامشيين المنشغلين بالانحطاط الوراثيّ للأعراق والسكان، إلا أن معظم العلماء يُدركون الآن أن مصلحة الأفراد ينبغي أن تكون لها الأولوية على مصلحة الجماعات. وهناك فارقٌ شاسع بين الفرز الوراثي وما كان أنصار تحسين النسل يريدونه أيام مجدهم ، وهو يقع في التالي: إن الفرز الوراثي يدور حول إعطاء أفراد خاصين اختيارات خاصة . أما تحسين النسل فكان يدور حول تأميم هذا القرار لجعل الناس يتوالدون من أجل الدولة وليس من أجل أنفسهم. وهذا تمييز كثيراً ما نغفل رؤيته في اندفاعنا لتعيين ما يجب علينا "نحن" أن نسمح به في عالم الوراثة الجديد . من نكون نحن؟ نحن كأفراد، أو نحن بمعنى المصلحة الجماعية للدولة أو العرق؟ ..فكما ناقشت الأمر في الفصل عن كروموسوم 13 ، نجد أن هناك في الولايات المتحدة لجنة للوقايةِ من الأمراض الوراثية اليهودية تُجري إختبارات على دم أطفال المدارس ، وتعطي المشورة ضد الزواج لاحقاً عنما يكون كِلا الطرفين حاملاً لنسخة من جينٍ معين يُسبب المرض نفسه. وهذه سياسة اختيار إرادي بالكامل، وعلى الرغم من أن ذلك يُنتقد على أن فيه تحسيناً للنسل، إلا أنه لا يتضمن أي إجبارٍ بالمرة، تُقدم الكثير من السجلات التاريخية لتحسين النسل هذا العلم كمَثلٍ لمخاطر العلم وخاصة الوراثيات من غير سيطرة ، إلا أن فيه مثلاً أكبر أكثر لخطر أن تترك الحكومات من غير سيطرة."
كنت أعلم أني حين أحكي ﻷمي عن جين مرض (الفصام العقلي) الذي أصاب خالي فدمّر حياته وأفقده وظيفته المرموقة وزوجته المُحبة ..أوعن وراثية مرض (الاكتئاب المزمن) الذي أصاب خالتي فيتّم أولادها وهي على قيد الحياة ..أن لن يعنيها كثيراً إحتمالية أن يرث أحدنا نفس الداء ..بقدر ما سيرفع عن كاهل قلبها أحمال قديمة و أنواء ...تقول اﻵن بارتياح :"يعني صحيح جدك كان شديد وقاسي حبتين ..بس كتر خيره والله عمل اللي عليه وزيادة"....لم تكن تلك فائدتي الوحيدة من الكتاب ..فلقد صارت أمي تغمغم الآن عند الخلاف بدلاً من الصياح :"جينات مهببة!" فيضحك أبي ..و تسألني خلسةً بعد نومه عن دواءه في اهتمام ، فتغمرني السعادة ...أما بالنسبة ل "لا قطعية رايدلي" فسُحقاً لها ..وقطعاً لن أخبر بها أمي.