...
Show More
عشرون عاما مرت قبل أن أقرأ ثانية لمارك توين، لا أكاد أصدق هذا، "كاتب طفولتي المفضل الذي كانت روايته "مغامرات هكلبري فين هي أول ما أقرأ من روايات على الإطلاق.
لا يمكن لأحد أن يتخيل إلى أي حد شغفت بمغامرات هذين الصديقين المتشردين: هكلبري فين وتوم سوير، وفي كل مرة أقرأ عنهما كنت أكرر قراءة تلك المعلومات الضئيلة عن مارك توين، وبعد عشرين عاما وأنا أقرأ اسمه الحقيقي وأتابع حكايته عن عمله على البواخر وفي الصحف المحلية، تشرق في ذهني تلك المعلومات القديمة التي كررتها مرة بعد مرة ويبدو كأني كنت أحتفظ بها على الدوام صحيحة واضحة دون أن أشعر.
يبدأ مارك توين سيرته بسرد حكايات طفولته، لقد أدهشني وأسعدني أن أكتشف كم يشبه أبطاله الصغار الذين شغفت بهم، لقد كان هو نفسه طفلا مغامرا جريئا غريب الأطوار، ومع ذلك كان حساسا للغاية لكل درجات الجمال ومتمتعا بشعور بالكرامة وخفة الظل في آن واحد، لقد عاش طفولة قاسية لكنه في سيرته لا يغفل الذكريات الجميلة التي انحفرت في وجدانه وتركت آثارها في نفسه إلى آخر العمر، وأنا أقرأ تلك الحكايات كنت أتعجب كيف يحتفظ رجل تجاوز السبعين بذكريات طفولته وكيف يتحدث عنها بوصفها أجمل ما حدث له على الإطلاق، أتعجب وأنا أكثر من يستطيع أن يدرك كم هذا حقيقي ومفهوم! يبدو لي أحيانا أن ذكريات طفولتنا لا تنمحي من قلوبنا أبدا، إننا نتذكرها ليست كأحداث موضوعية مجردة، وإنما نستعيد معها ذات الانفعالات والعواطف الحادة التي كنا نتمتع بها ونحن صغار، الصغار هم أكثر الناس صدقا في مشاعرهم، وهذا الصدق، صدقنا نحن في صغرنا، يغدو من المستحيل نسيانه.
ثم يذكر مارك توين القليل عن سيرته الأدبية والعملية، لقد رأيته قليلا جدا وخاب أملي لتجاهله ذكر روايتيه المفضلتين عندي، وددت لو عرفت في أي ظروف كتبهما وما الذي ألهمه تلك المغامرات وإن كنت لمحت أصول ذلك الإلهام في أحداث حياته هو نفسه، لقد صبر كثيرا على ظروف عمل سيئة وضيق عيش بائس، ورغم أن قصته الأولى قوبلت بالرفض القاطع من أول ناشر يقابله إلا أن صديقه آمن به وسانده حتى نشرها ولاقت نجاحا كبيرا، واستمر هذا النجاح حتى آخر حياته حتى أني اندهشت من علامات هذا النجاح والشهرة التي لم أدركها من قبل بما يكفي.
ثم يعود مارك توين ثانية إلى حياته الشخصية، زوجته وبناته، لا بد أن أقف هنا لأقول أنه من النادر أن يطلع الإنسان على سيرة شخصية لكاتب شهير ويجده يحمل كل هذا الحب والتقدير والاهتمام لزوجته وبناته وأمه، لقد تحدث عن كل واحدة منهن باعتبارها ملاكا، وأفاض في الثناء عليهن ووصف مشاعره تجاههن، لقد مثلن له حياته كلها، وإنه من دواعي الأسى أن يمتد به العمر ليفقدهن الواحدة تلو الأخرى ليعيش وحيدا في بيت واسع فارغ إلا منه، وفي أكثر من موضع توقفت واختنقت بالعبرات، لأن لمست فيها روح الأبوة العظيمة التي طالما أحاطتني طول عمري، خاصة في حديثه عن سوزي ابنته الكبرى، التي ماتت شابة في الرابعة والعشرين من عمرها، وكذلك چين رفيقته الوحيدة بعد وفاة سوزي وزوجته وسفر كلارا، وكيف ماتت فجأة في صباح أحد الأيام وهي لا تزال في ريعان الشباب، لقد وصف حالته حين عرف خبر موتها المفاجيء وهو لا يزال في فراشه صباحا:
"أظنني أعرف الآن كيف يحس جندي تخترق رصاصة قلبه"
لا أعرف لماذا انقلبت هذه السيرة رأسا على عقب، لقد بدأها وخفة ظله تلون مآسي طفولته وحسه الفكاهي يهون من بؤس شبابه، لكن مرارة أيامه الأخيرة لم يخفف منها شيء ولم يبد أنه قادر على تجاوز كل هذا الفقد بغير الإيمان.
وبعد،
فقد شعرت وأنا أقرأ هذه السيرة أن الزمن لم يمر بي قط، كأنه تجاوزني، وتركني طفلة منكبة على كتابها في سكينة ودعة، تقرأ فتبتسم، وتقرأ فتبكي، والعالم بعيد بعيد، بكل ضجيجه وتفاهاته ومآسيه، لا يكاد يخدش طمأنينتها وخفتها وأحلامها البسيطة وأمنياتها الساذجة، كأن الزمن دار عشرين دورة وعاد ليجدني كما أنا، أجلس على أريكة البيت القديم تظلني نخلته العتيقة، أقلب وجهي بين كتابي وبين السماء وأتشرب على مهل الكلمات، وأتأمل بغبطة السحب والطيور والقمر والنجوم، لأعيش عمري كله أرى البهجة في هذين العزيزين: الكتاب والسماء.
لا يمكن لأحد أن يتخيل إلى أي حد شغفت بمغامرات هذين الصديقين المتشردين: هكلبري فين وتوم سوير، وفي كل مرة أقرأ عنهما كنت أكرر قراءة تلك المعلومات الضئيلة عن مارك توين، وبعد عشرين عاما وأنا أقرأ اسمه الحقيقي وأتابع حكايته عن عمله على البواخر وفي الصحف المحلية، تشرق في ذهني تلك المعلومات القديمة التي كررتها مرة بعد مرة ويبدو كأني كنت أحتفظ بها على الدوام صحيحة واضحة دون أن أشعر.
يبدأ مارك توين سيرته بسرد حكايات طفولته، لقد أدهشني وأسعدني أن أكتشف كم يشبه أبطاله الصغار الذين شغفت بهم، لقد كان هو نفسه طفلا مغامرا جريئا غريب الأطوار، ومع ذلك كان حساسا للغاية لكل درجات الجمال ومتمتعا بشعور بالكرامة وخفة الظل في آن واحد، لقد عاش طفولة قاسية لكنه في سيرته لا يغفل الذكريات الجميلة التي انحفرت في وجدانه وتركت آثارها في نفسه إلى آخر العمر، وأنا أقرأ تلك الحكايات كنت أتعجب كيف يحتفظ رجل تجاوز السبعين بذكريات طفولته وكيف يتحدث عنها بوصفها أجمل ما حدث له على الإطلاق، أتعجب وأنا أكثر من يستطيع أن يدرك كم هذا حقيقي ومفهوم! يبدو لي أحيانا أن ذكريات طفولتنا لا تنمحي من قلوبنا أبدا، إننا نتذكرها ليست كأحداث موضوعية مجردة، وإنما نستعيد معها ذات الانفعالات والعواطف الحادة التي كنا نتمتع بها ونحن صغار، الصغار هم أكثر الناس صدقا في مشاعرهم، وهذا الصدق، صدقنا نحن في صغرنا، يغدو من المستحيل نسيانه.
ثم يذكر مارك توين القليل عن سيرته الأدبية والعملية، لقد رأيته قليلا جدا وخاب أملي لتجاهله ذكر روايتيه المفضلتين عندي، وددت لو عرفت في أي ظروف كتبهما وما الذي ألهمه تلك المغامرات وإن كنت لمحت أصول ذلك الإلهام في أحداث حياته هو نفسه، لقد صبر كثيرا على ظروف عمل سيئة وضيق عيش بائس، ورغم أن قصته الأولى قوبلت بالرفض القاطع من أول ناشر يقابله إلا أن صديقه آمن به وسانده حتى نشرها ولاقت نجاحا كبيرا، واستمر هذا النجاح حتى آخر حياته حتى أني اندهشت من علامات هذا النجاح والشهرة التي لم أدركها من قبل بما يكفي.
ثم يعود مارك توين ثانية إلى حياته الشخصية، زوجته وبناته، لا بد أن أقف هنا لأقول أنه من النادر أن يطلع الإنسان على سيرة شخصية لكاتب شهير ويجده يحمل كل هذا الحب والتقدير والاهتمام لزوجته وبناته وأمه، لقد تحدث عن كل واحدة منهن باعتبارها ملاكا، وأفاض في الثناء عليهن ووصف مشاعره تجاههن، لقد مثلن له حياته كلها، وإنه من دواعي الأسى أن يمتد به العمر ليفقدهن الواحدة تلو الأخرى ليعيش وحيدا في بيت واسع فارغ إلا منه، وفي أكثر من موضع توقفت واختنقت بالعبرات، لأن لمست فيها روح الأبوة العظيمة التي طالما أحاطتني طول عمري، خاصة في حديثه عن سوزي ابنته الكبرى، التي ماتت شابة في الرابعة والعشرين من عمرها، وكذلك چين رفيقته الوحيدة بعد وفاة سوزي وزوجته وسفر كلارا، وكيف ماتت فجأة في صباح أحد الأيام وهي لا تزال في ريعان الشباب، لقد وصف حالته حين عرف خبر موتها المفاجيء وهو لا يزال في فراشه صباحا:
"أظنني أعرف الآن كيف يحس جندي تخترق رصاصة قلبه"
لا أعرف لماذا انقلبت هذه السيرة رأسا على عقب، لقد بدأها وخفة ظله تلون مآسي طفولته وحسه الفكاهي يهون من بؤس شبابه، لكن مرارة أيامه الأخيرة لم يخفف منها شيء ولم يبد أنه قادر على تجاوز كل هذا الفقد بغير الإيمان.
وبعد،
فقد شعرت وأنا أقرأ هذه السيرة أن الزمن لم يمر بي قط، كأنه تجاوزني، وتركني طفلة منكبة على كتابها في سكينة ودعة، تقرأ فتبتسم، وتقرأ فتبكي، والعالم بعيد بعيد، بكل ضجيجه وتفاهاته ومآسيه، لا يكاد يخدش طمأنينتها وخفتها وأحلامها البسيطة وأمنياتها الساذجة، كأن الزمن دار عشرين دورة وعاد ليجدني كما أنا، أجلس على أريكة البيت القديم تظلني نخلته العتيقة، أقلب وجهي بين كتابي وبين السماء وأتشرب على مهل الكلمات، وأتأمل بغبطة السحب والطيور والقمر والنجوم، لأعيش عمري كله أرى البهجة في هذين العزيزين: الكتاب والسماء.